"أطفال اليهود ليسوا ملكًا لأهلهم، بل ملكٌ للمجتمع اليهوديّ"، هذا ما يؤمن به مجتمع "الحاسيديم" الذي بنى نفسه فكريًا كناجٍ من المحرقة، يؤمن بأنّ أطفاله ينتمون لستة ملايين يهودي قتلتهم الحرب العالمية الثانية.
وانطلاقًا من هذا المبدأ، يدعم "الحاسيديم" بشراسة معركة الزوج أو الزوجة في حضانة الأطفال، إذا ما قرر الشريك الخروج من هذا المجتمع، والتمرّد على قوانينه، ويصفون هذه المعركة بأنّها "معركة ضدّ الشيطان".
"الحاسيديم" حركة روحانية اجتماعية يهودية نشأت في القرن 19، تدعو لعبادة الرب، وتطبيق تعاليم التوراة كما نزلت، ولا يعتبرون إسرائيل ممثلًا لهم
خلال 90 دقيقة، يعرض فيلم ((one of us الوثائقيّ الكثير من المشاهد والمعلومات الصادمة عن حياة 300 ألف يهودي من طائفة "الحاسيديم" في نيويورك، متطرقًا لحياتهم السياسية، الثقافية والاجتماعية.
وبينما يستفيد أفراد الطائفة من مساعدات الحكومة فإنهم أسسوا لأنفسهم حياة خاصة ترفض الاندماج مع المجتمع الأمريكي، وتعتبر حقوقها المدنيّة بوصفها هبة من الله وليس من الحكومة.
يتطرّق الفيلم لمعاناة ثلاثة أشخاص قرروا ترك مجتمع يهود "الحاسيديم"، والاندماج في المجتمع الأمريكي، وهم: ايتي 32 عامًا، الأمّ لسبعة أطفال، وآري 18 عامًا، ولوزر29 عامًا، والذي يعمل في مجال التمثيل.
اقرأ/ي أيضًا: شلومو ساند وديناصور الشعب اليهودي
تتحدث "ايتي" عن زواجها الذي استمرّ 12 عامًا، وكانت حصيلته الكثير من الأطفال والذكريات المؤلمة المليئة بالجنس الإجباري والعنف النفسيّ، بينما يشارك "آري" قصّة استخفاف من حوله وتستّرهم على جريمة اغتصابه من قبل مسؤول مخيّم صيفيّ، وهو في الثامنة من عمره. أمّا "لوزر" فيتحدّث عن ردّة فعل أهله عندما قرر التخلي عن حياته المتديّنة، وكيف أنه لا لم يرَ أطفاله ولم يتحدّث مع أمه وأخواته منذ ذلك الوقت.
في بعض مشاهد الفيلم قد يظن المشاهد أن ما يتابعه هو فيلم وثائقي عن إحدى المناطق التي يسيطر عليها تنظيم داعش، ولن يخطر له أنّ هذه الصور تأتيه من أحياء بروكلين وكوينز في نيوروك، حيث أسست جماعة "الحاسيديم" لنفسها مجتمعها الخاصّ داخل المجتمع الأمريكي، فنظام التعليم هُنا مختلف! وللمجتمع سيارات إسعافه الخاصّة وكذلك دوريات الشرطة التي يديرها متطوعون، كُلّ اللافتات هُنا تُكتب باللغتين؛ العبرية والإنجليزية، وأهمّها لافتات الشوارع التي تُحذّر النساء من ارتداء جوارب جلدية اللون!
في الفيلم، تستعرض "ايتي" صفحات كتاب طفلها في الصف الثاني، وقد ظُللت وجوه الفتيات باللون الأسود. وتُشير إلى أنّ الطائفة تمنع الأهل من اصطحاب أطفالهم إلى المكتبات العامة أو استخدام الانترنت.
ويرى "آري" أنّ ما يحدث نوع من الاستبداد الذي يمارسه مجتمع "الحاسيديم"، وينتج عنه منع الأفراد من تعلّم أيّ مهارات أو خبرات تؤهلهم للخروج من هذا المجتمع، على اعتبار أنّ هذه الإجراءات تُشكّل ضمانًا للطائفة بانتماء أفرادها للأبد.
ويشير آري إلى أنّه وبعد خروجه من مجتمع طائفته، كان عليه أن يتعلّم أسس الرياضيات، فبدأ البحث على "جوجل" لفهم ماهيّتها.
اقرأ/ي أيضًا: لماذا يتحدّث المجرمون مع أطفالنا؟
وأنت تتابع الفيلم، تعتقد أن لا ضرر ولا أذى يمكن أن يلحق بالشخصيات الثلاث، نظرًا لأنهم يعيشون في الولايات المتحدة، حيث "القانون فوق الجميع ولحماية الجميع". ولكنك تُفاجأ بأنّ هذه الجماعات تتفوق على القانون بل وتسيّره لصالحها. وفي وصف لهذا تقول "ايتي" بعد أن خسرت حضانة أبنائها السبعة، إنّ القانون لا يُطبّق هُنا، وليس له أي تأثير أو سلطة، في إشارة إلى الأحياء التي يسكنها يهود الحاسيديم.
تحديّات التأقلم في مجتمع لا تعرف عنه إلا القليل، لا تقل صعوبة عن تحديات العيش بأفكار لا تؤمن بها
الكثير من النبذ وسوء المعاملة بل ومحاولة القتل أحيانًا بانتظار مغادري مجتمع "الحاسيديم" الذين تبلغ نسبتهم 2%. هكذا يخبرنا الفيلم الذي أخرجته (هايدي إوينغ) و(راشيل جرادي) والذي يأتي استكمالاً لمسيرتهما في إخراج أفلام تتناول أوضاع الأقليّات والتحديات التي تواجه أفرادها داخليًا وخارجيًا. فالمخرجتان ذاتهما أخرجتا فيلم (أبناء بركة) و(التعليم عند محمد حسين) والفيلم الوثائقي (Jesus camp) الذي ترشح لجائزة الأوسكار عام 2007.
وفي نهاية الفيلم لم تجد الشخصيات الثلاث شكلًا مستقرًّا لحياتها الجديدة بعيدًا عن مجتمعها السابق، فتحديّات التأقلم في مجتمع لا تعرف عنه إلا القليل، لا تقل صعوبة عن تحديات العيش بأفكار لا تؤمن بها.
اقرأ/ي أيضًا: