تقول أسطورةٌ قديمة إنّ شابًا شاميًّا افتُتِن بفتاة تُدعى "عناه"، على اسم ابنة إلهة الخصب والحب والحرب لدى الكنعانيين "إيل"، وحدث أن انفصل هذان العشيقان، ليُصبح ويُمسي حبيبها هائمًا ويُنشد لربعه وأهله: "دِلّونّي على عناه".
مئات السنوات مّرت على تلك الأسطورة التي حوّر الشاميون عنوانها إلى "دلعونا"، لتغدو فنًا شعبيًا فلكلوريًا لا تخلو ذاكرة أيّ من سكان الهلال الخصيب من حفظ بيتٍ على الأقل من ذلك الفن الشفوي المصحوب باللحن الشهير الذي يحفظونه حتى اليوم.
في روايةٍ، تُنسب الدلعونا إلى عاشقٍ أحب فتاة اسمها "عناه" ثم حُرِم منها. وفي رواية أخرى تُنسب إلى طلب العون
في المقابل، فإن اعتقادًا آخر يقول إن أهل قريةٍ شاميةٍ ما، كانوا يتنادون عاليًا لبعضهم "دلعونا"، طالبين العون لجني قمحهم أو قطف حمضياتهم أو بناء منازلهم. حيث حرف (الدال) هو (أل) التعريف بالسريانية، و"عونا" أي العون والمساعدة.
اقرأ/ي أيضًا: كيف تطوّرت الأغنية الفلسطينية في قلب الأغنية الشعبية؟
وعلى أي حال بشأن أصل التسمية، فإن فنّ الدلعونا نجح بالحفاظ على شكله التقليدي القديم، حيث يُناغم الردّاد، بيرغوله أو شبابته مع المغني، فريقهما المكوّن من 10 من راقصي الدبكة شابكين الأيدي على شكل دائرة.
وفي بعض المناسبات تُغنّى الدلعونا دون دبكة، كأن يتغنى بها أحدهم في رواحه ومجيئه أو أثناء عمله، أو يتغنّى بها الفرد والجماعة عزفًا مرافقًا، إذ يبدأ الفرد ببيتٍ من الدلعونا، وتردّ جماعته بلازمةٍ معينة عبارة عن بيت شعرٍ واحد، أي نصف بيتٍ من ذلك الفن الذي يعتمد البحر "البسيط" في وزنها الشعري.
أما موضوعات الدلعونا، فيغلب عليها الغزل بالحبيب، إلا أن الفلسطينيين على وجه الخصوص، أضافوا عليها الكثير من الأبيات المتأثرة بنضالهم ضد الاحتلال، كونه جزء لا يتجزأ من معاناتهم اليومية المستمرة، وخصوًا أيام انتفاضة العام 1987، حين أنشدوا:
الجيش الصهيوني احنا ما انهابوا *** بالحربِ الشعبية هدّينا اعصابو
الوطـــن وطنّا واحـنا اصحــابو *** هيّـا ياغُــرُب انقلـعوا مـن هونـا
وهنا نستعرض بعضًا مما غنّى الفلسطينيون من الدلعونا في الوطنيات والحُب والجمال، وكذلك في أوصاف الحبيب بما في ذلك العيون والفم والأسنان والصدر والخصر والعُنق وطريقة المشي والابتسامة والبيضاء والسمراء والشباب والشيّاب. كما تناولت العُرس والتوسل والإغواء والإخلاص والمهور واللقاءات الحميميّة والهجر والطلاق والفراق والشكوى والحنين والعتاب والمدح والهجاء والفخر والتحية والاعتذار، هذا إضافة إلى الدلعونا الدينية.
ففي تمجيد الدلعونا غنّوا:
بدّك دلعونا تعال لحدّي *** سجّل بالورق والقلم عندي
ما بلاقي زيّك بالدنيا ندٍّ *** أحلى لسانِ وكلامْ مزيونا
وفي الوطنيّات غنّوا فقالوا:
يا دمع عيني بلّل خدودي *** حارس عالأقصى واحد يهودي
وأبطال الثورة لازم تعودي *** ونرفع علمنا أجمل ما يكونا
يا شعب الضفة وغزّتنا قاوم *** عا حصْوِي زْغيري إيّاك تساوِم
للورا شويّة إرجع يا ظالم *** وقلّي وين صفّا النازي وِزْبُونا
أما في وصف الحبيب فغنوا أبياتًا لا يُمكن حصرها:
سن الستعشر مارق ومزمّر *** بدّو يدهسنا الله لا يقدر
مثل رغيفِ سُخِن ومْقمّرْ *** طالع هالحينا من الطابونا
أما في الحب فقالوا:
مرقت من حدّي وقالت لي مرحب *** حسّيت بجسمي كأنو تكهرب
دخيلَك ترحم دخلك يا أرنب *** قلبي ما تصيّد غيرك حسّونا
اسقيني من دلوك يا حلوة اسقيني *** لو إني ميّت شوفك يحييني
والله يا ابنية لو جافيتيني *** لأظُربك طلق بينٍ العيونا
وفي وصف الجمال فغنّوا:
يا امِّ القُندَرَا بلا زْراراتِ *** يللّي قهرتِ كل البناتِ
وأنا لاحلفلك على عويناتي *** غيرك ما أهوى يا امِّ لعيونا
سألتك من وين قلتِ رام الله *** وأنا في حبّك ساعة بتْجلّا
ومثلك في الدنيا ما خلق الله *** ولا أجمل منك في كل الكونا
ظلّات تتمايل بالطول والعرظِ *** خمّنت القمر طايح علأرظِ
صلّيت السُّنة ونسيت الفرظِ *** كرمالك يا حلوة امِّ لعيونا
على دلعونا يا كركريّه *** وحياتُه عمرك حنَي علييّ
وحياته عمرك يا هالبنيه *** إلنومه ع سديرك تِسوا مليونا
نزلت ع البلد والبدر طالع *** التفوا عليها الخلق في الشارع
ظُبّي عَ صدرك يا بنت دالع *** شباب البلد يتغامزونا
نزلت ع البلد والبدر طالع *** التفوا عليها الخلق في الشارع
ظُبّي عَ صدرك يا بنت دالع *** شباب البلد يتغامزونا
وفي وصف الخدّ، فقالوا:
ريتني مِحرمة وِألوّحِ بيدك *** وامسح غبار الشمس عن خدّك
إن قدّر المولى لأنام بحدّك *** وامص خدودك مصّ الليمونا
تحت الخروبة قاعد متمدد *** جابت الغدا قُلتْ متغدي
طلبت البوسة دلّت الخدِّ *** وقالت للجنة فورًا مظمونا
وجمعوا في وصف الفتاة السمراء والبيضاء فقالوا:
يا ام التنورا الحمرا المنقوشة *** من غمزة عينك صارت الطوشة
أخذنا البيضا طلعت مغشوشة *** وأخذنا السمرا طلعت ملعونا
أما فتيات القرية، فقد هِمنّ في حب الأسمر حين غنّين:
يمّا يا يمّا حبيبي الأسمر *** لمّن حبيته سافر عالعسكر
وانا من بعده لا أرقص ولا أسهر *** وأظبِّ السالف حتى يعودونا
أما في تقديم التهنئة بالعرس فقالوا:
اسمعوا الشاعر واشُّو بيقولِ *** يا ريت الفرح هاظا ع طولِ
هاتوا الشبّابة وهاتوا اليرغولِ *** نرقص وتنغني عالدلعونا
وكغيرها من كل التراث المادي أو الثقافي الفلسطيني؛ لم تسلم الدلعونا من السرقة الإسرائيلية، حينما ظهرت فرق غنائية إسرائيلية في حفلاتٍ موسيقية عالمية بالزي التراثي الفلسطيني تؤدي الدبكة وتعزف بـ"الشبابة واليرغول" وغيرها من الألحان الفلسطينية والعربية الأصيلة والشهيرة ولكن بالعبرية.
اقرأ/ي أيضًا:
هل انهارت الأغنية الشعبية على يد "الفنانين الجدد"؟