23-سبتمبر-2018

كانت والدتي أطال الله في عُمرها كُلما أفاقت ليلاً من نومها على قرقعتي وتفتيشي لما تُخفيه من حلوى في "كوسة لفراش"، تقول جملة واحدة بعد أن ترمقني بنظرة من طرف عينها: "زي لمطينات". كُنت ألوذ بالصمت فرحًا بما غنمت، ومُتجاهلاً ما وُصِفْتُ به لجهلي بهؤلاء المُطينات، و"الإنسان عدو ما يجهل".

لاحقًا وعيتُ حكاية هؤلاء المُطينات، وعرفت مُتأخرًا لماذا شَبهتني أمي بهن، وعلى كُلٍ أن تأتي المعرفة مُتأخرة خيرٌ من أن لا تأتي.

 المُطَيِّن في اللغة فاعل من طيّن، والطين يكون من تُرابٍ أو رمل أو كلس يُجبل بالماء، والتاء هُنا تاء التأنيث. ونقول كما في اللغة: طَيَّنَ يُطين تطيينًا فهو مُطين، وطَيَّنَ الْجُدرانَ بمعنى طَلاَها بِالطِّينِ، وطانَ الْجدار: لَطَّخهُ وطلاَهُ  بالطّين، والمفعول: مُطَيَّن كقولنا: بيتٌ مُطين. ومن طريف ما نقوله: "فلان إمْطَيّنْ"، بمعنى مُغلق المُخ قليل الاستيعاب، وكأنه أغلق كل مسامات عقله بالطين.

في لغة الفلاحين، المُطينة صفة للنساء اللواتي كُن يقُمن بتطيين البيوت وتمليس واجهاتها وسقفها

فالمُطيّنات إذن: هُن النساء اللواتي يَقُمن بفعل التطيين، كجبل الطين أو العَمل به، أما في لغة الفلاحين ومعنى حياتهم فإن المُطينة صفة للنساء اللواتي كُن يقُمن بتطيين البيوت وتمليس واجهاتها وسقفها وسد أي شُقٍ أو فراغ أو تصدّع مهما كان صغيرًا أو بعيدًا، فتعود البيوت بهذا العمل صالحة للحياة واستقبال أهلها الذين غادورها مع بدء موسم القيظ للعيش في النواطير في كروم التين والعنب.

وهو عملٌ من أهم الأعمال التي تنجزها المرأة لمعاونة الرجل في الحياة الأسرية، فالدور تكاملي، و"إيد ع إيد رحمة". وكما يُقال في المثل: "الرجل جنّى والمرأة بنّى"، بمعنى الرجل يجني المال للأسرة، فيما تتولى المرأة مسؤولية بنائها.

اقرأ/ي أيضًا: "تشبارة" الفلاحين.. صناعة حققت اكتفاء ذاتيا قبل قرن ونصف

فلسطينيًا كانت البيوت في القرى - في غالبها - مبنيةً من الحجر والطين، الأمر الذي يجعلها بحاجة للصيانة بشكل دوري لمقاومة العوامل المناخية التي تُؤدي لحدوث تشققات وسقوط بعض أجزاء الملاط "القصارة". وهذه الصيانة تكون قبل بدء فصل الشتاء وتساقط الأمطار، فتدلف البيوت على رؤوس أصحابها، وساعتها يقع المحظور ويخرب ما في الدور، "ويا عزارة ما بعدها عزارة".

 التطين مُهمَةٌ لا مناص منها تتولى أمرها النساء دون الرجال، إلا إذا كان الأمر يحتاج إلى جهدٍ عَضلي وطاقة أكبر من قدرتهن، كإعادة بناء بعض الواجهات أو تجهيز مادة الشيد (الجير) ونقل الأدوات الثقيلة.

كانت النسوة في كُل زقاق أو حارة يقمن بتطيين البيوت قبل حلول الشتاء بشكل جماعي وفق نظام العونة

 وكانت النسوة في كُل زقاق أو حارة يقمن بهذا العمل بشكل جماعي وفق نظام العونة / الفزعة المعروفة في المجتمع الفلسطيني قديمًا، وقولهن: "من عاونا عاوناه، من عاونا الله عانه".

اقرأ/ي أيضًا: أبو المواسم فرحة الفلاحين

وبالعادة تتحرك النساء للقرى لأجل هذه المُهمة مع انتصاف شهر أيلول/سبتمبر، أو بعد "المَطرة" الأولى التي تُعتبر بداية الموسم الفلاحي في فلسطين، وتأتي أحيانًا على شكل نُقاطٍ صغيرة، فيُسميها بعض الفلاحين "شتوة منبهة الرعنة/الرعنات"، ويُقصد بذلك أن هذه الشتوة الخفيفة تُحذر النساء الكسولات اللواتي تأخرن عن النزول للقرية للبدء بتطيين البيوت وتجهيزها، وكأن هذه الشتوة الخفيفة تُنذرهن وتقول لهن: موسم الشتاء صار قريبًا.

ويبدأ العمل بهذه المهنة بالذهاب للمَطاين (المطينة)، وهي الأرض ذات التُربة الصلصالية المعروفة باسم (حُوَّر)، فيتم إحضار الكمية اللازمة التي قد تتطلب مساعدة الرجال في نقلها للأزقة في القرى، ليتم بعد ذلك جَبلها بالماء مع القش الناعم (التبن)، وبعد ذلك تبدأ عملية التطيين بسد الثقوب وتمليس الواجهات ثم صبّ سقف بعض البيوت المتصدّعة، وكذا الجدارن الخارجية. وتستعين النساء بالسلالم الخشبية لأجل التفتيشٍ الدقيق لكل واجهات البيت وشقوقة، ومن هنا جاء التشبيه بهن في المثل الشعبي: (زي لمطيّنات).

 وكل هذه المهمة تتم مصحوبة بالخراريف والغناء، فالخراريف تقتل الوقت، والغناء يُزيل العناء. فتغني النسوة للسيدة التي تكون على رأس السُلم:

يا طالعة ع السلالم والهوى غربي .. قربت الشتوة قربت يا خوف قلبي

يا طالعـه ع السلالم والهوى نسـايم  .. بالله بالطينـة ردي حيطنا المايـل

يا طالعـة ع السلالم يا سـلام وسـلم .. يا ضـربة ايديها يا ضـربة معـلم

ولا يفوتُ النّساء تنعيم هذه الطينة وتمليسها وركِّها جيدًا بحجرٍ ناعم أملس يُؤتى به من الأودية، يُقال له "مدلك" أو "مُصحان" لتصبح الواجهات ناعمة مرصوصة.

كخلية نحلٍ لا تتوقف عن العمل يكون شكل القرى بعد أواسط أيلول، حيث تكون النسوة المُطيّنات في سباق مع الزمن بهمة ونشاط لينجزن العمل قبل سقوط المطر في واخر هذا الشهر، فـ"أيلول ذيله مبلول"، وكذلك قبل أن يصل أزواجهن من القصور والنواطير الصيفية ومعهم ما تم تجفيفه على المساطيح من قطين وزبيب في نهاية موسم القيظ؛ وهروبًا من شتوة المساطيح تلك التي تُؤذن بجمع القطين والزبيب والمُغادرة نحو القرية استعدادًا لموسم وفصل جديد.

كخلية نحلٍ لا تتوقف عن العمل يكون شكل القرى بعد أواسط أيلول، حيث تكون المُطيّنات في سباق مع الزمن 

وما أن تنتهي النسوة من تطيين بيوت الحارة بشكل جماعي، حتى تبدأ مُهمّة تبييض البيوت وطلائها بالشيد الأبيض (طراشة)، وأحيانًا صبغها بالنيلة الزرقاء، مُستخدمات فرشاة من أوراق وأغصان نبته الطيّون ذات الرائحة العطرية التي تطرد الحشرات وتُعطي رائحة جميلة للبيت.

وأجيبلك يا دارنا جملين نيله .. وأنقشك يا دار نقش المزيونه

وآخر مراحل التطيين تكون بدمغ بعض الواجهات والمدخل بالحنا والسيرقون مُستخدين أيضًا فرشات نبات الطيون. ويقال إن الطيون كان اسمه في الأصل طيّوب، لطيب رائحته الكافوريه الآسره، لكن الفلاحين سموه طيونًا لأنه يُستخدم في عملية تطيين البيوت.

يا دار يا دار لو عدنا كما كنا .. لاطليك يا دار بعد الشيد بالحنا

يا دار يا دار لو عادوا أهاليك .. بالشيد لأطليك وبالحنا لأحنيك

وحين تجلس النساء لالتقاط أنفاسهن بعد الانتهاء من التطيين والتمليس يكون "طبيخ الطيانات" - كما يُسمى - قد نضج ونزل عن النار، وهو طبق واجب الإعداد في هذه المناسبة تتولى إعداده أحد السيدات لنسوة الحي المُتطوعات لإنجاز هذا الجهد الجماعي، وتُقبِلُ النساء إلى هذا الطبق بنهمٍ شديد وسط شعور بفرحة الإنجاز.

 وبهذا العمل تكون البيوت جاهزة للبدء بالاستعداد للموسم الفلاحي القادم الذي صار على الأبواب وهو موسم قطاف الزيتون (أبو المواسم)، وتبدأ مهمة أخرى في القرى تتعاون بها العائلة لتنظيف الآبار واصلاح المزاريب وتجهيز القنوات للاستفادة من أمطار الشتاء.


اقرأ/ي أيضًا:

عن "الناس الطيبة" أيام البلاد

مفردات فلسطينية شارفت على الاندثار

الشتاء في لهجتنا العامية