05-يوليو-2024
منظمة التحرير الفلسطينية

(Getty) في هذا الواقع المركب من المأساة وعدم اليقين، نسمع عن المؤتمر الوطني الفلسطيني، الذي يستعيد سؤال "ما العمل؟" من جديد

في الحادي عشر من حزيران/يونيو الماضي، بعد يوم من اغتيال إسرائيل لأربعة شهداء غرب رام الله، أُعلن الإضراب الشامل لكافة مناحي الحياة في الضفة الغربية. كان يمكن أن يكون هذا خبرًا عاديًا، وكان يمكن أن تكون صور المحال المغلقة جزءًا من روتين تعود عليه الفلسطينيون في سنوات ما بعد الانتفاضة الثانية في ظل عجز سياسي عن القيام بأي خطوة فاعلة حقيقية، لولا أنه تزامن مع حملة إبادة جماعية شاملة ومستمرة للفلسطينيين في قطاع غزة. فقبل يوم واحد من مجزرة رام الله، وقعت ثلاث مجازر أخرى في القطاع، وسقط عشرات الشهداء.

لم تكن شوارع مدن الضفة الفارغة صورة فقط عما وصلنا إليه من تقسيم وشرذمة إلى درجة لم يعد فيها الدم الفلسطيني متكافئًا في خطاب سلطة منقوصة الشرعية، ومن يحتكم بأمرها وحاجاتها، ولكنها والأهم، كانت صورة مكثفة عن الطريقة التي ترسم فيها السلطة الفلسطينية حدود سيادتها، في أرض فلسطينية مقسمة، عبر أجساد الفلسطينيين، وعبر خطاب غير متكافئ عن المجازر ضدهم.

بالنسبة للسلطة الفلسطينية، فقد سقطت غزة قبل سنوات طويلة من الحسابات، ولم تعد إلا نتيجة ضغوط وحوارات إقليمية ودولية حول "اليوم التالي" للحرب، أو المخاوف وعدم اليقين بشأن الدور الوظيفي الذي لا يزال يمكن لمؤسسات السلطة أن تقوم به في المرحلة القادمة. أما بالنسبة لمعظم الفلسطينيين العاديين في الضفة الغربية الذين علقوا حياتهم ومصالحهم بسبب مجزرة في الضفة الغربية، ليشاهدوا عبر التلفاز مجازر أخرى في بقعة أخرى من فلسطين، فقد كان هذا المشهد تعبيرًا دقيقًا وفجًا لواقع غابت فيه أي إجابة لسؤال "ما العمل؟"؛ السؤال الذي توقف معظم الفاعلين السياسيين في فلسطين حتى عن التعامل معه، ناهيك عن تقديم إجابة فلسطينية موحدة له.

المؤتمر الوطني الفلسطيني يعيد التفكير في فلسطين كاملة، والفلسطينيين جميعهم، ويحاول إعادة ترسيم الخيال السياسي الفلسطيني بما يتجاوز التقسيمات التي صارت هي مصدر الشرعية الأساسية للسلطة الفلسطينية

في هذا الواقع المركب من المأساة وعدم اليقين، نسمع عن المؤتمر الوطني الفلسطيني، الذي يستعيد سؤال "ما العمل؟" من جديد، ويحاول عبر مساءلة الراهن الفلسطيني ومآلاته المحبطة، أن يقدم إجابة واقعية وموحدة، إجابة فلسطينية مشتركة وديمقراطية لسؤال غُيِّب بقوة الشرذمة الاستيطانية، والتطبيع الإقليمي، والقبضة الأمنية، ومليارات الريع الدولي.

مبادرة من نخب فلسطينية متنوعة وكبيرة داخل حدود فلسطين كلها، وخارجها، في الوطن والشتات، من مختلف مسارات الحياة النضالية والمهنية، يجتمعون كأفراد فلسطينيين مستقلين، من أجل "قيادة فلسطينية موحدة"، ومن أجل التحضير لمؤتمر وطني ينتهي إلى قيادة فاعلة وواحدة.  أما المفارقة في زمن فلسطيني مليء بالمفارقات، أن يُنظر إلى هذه المحاولة، كأي محاولة لإعادة إحياء دور منظمة التحرير، باعتبارها تهدد دور المنظمة.

ولا يملك الواحد منا أمام مثل هذه الخطابات الفارغة، التي ضج إعلام السلطة بها لمواجهة المبادرة، إلا أن يتساءل، عن دور المنظمة الذي يتخوف هؤلاء من أن ينتهي. ما هو واضح على الأقل، أن هذا الدور الذي يشعر إعلام السلطة بأنه صار مهدَدًا، ليس تمثيل الفلسطينيين جميعهم. فالسلطة التي صارت المنظمة في زمنها مبنى قديمًا بلا قيمة، لا تستطيع أجهزتها الشرطية والبيروقراطية ممارسة أدوارها الأولية حتى في معظم مناطق الضفة الغربية، ولم تعد حتى على سبيل الخطاب، قادرة على ادعاء تمثيل الفلسطينيين الذين لا توكل لها الترتيبات الأمنية مع إسرائيل إدارتهم. هل هذا الدور المهدد هو "الوحدة الوطنية"؟ كيف وقد صارت المنظمة مجرد منصة للتعامل مع خصوم السلطة داخليًا، عبر ابتزازهم ماليًا من خلال المستحقات، وخارجيًا عبر وصف أي منتقد للسلطة بأنه خارج عن الصف الوطني؟

في المبادرة التي بدأت على فكرة أننا نعيش في مرحلة لا يمكن التعامل معها بدون وحدة وطنية، تجتمع نخبة فلسطينية مفرقة على عشرات الدول، بما في ذلك داخل فلسطين، فتأتي نتيجة للواقع الاستعماري الذي فرق الفلسطينيين على كافة بقاع الأرض، لكنها ليست نتيجة فقط لهذا الواقع، ولكن محاولة لمقاومته. وفي حين يرى مهاجمو المبادرة دورهم محصورًا فيما "تبقى من فلسطين" أو ما تسمح لهم الترتيبات الأمنية بإدارته منها، فإن المؤتمر يعيد التفكير في فلسطين كاملة، والفلسطينيين جميعهم، ويحاول إعادة ترسيم الخيال السياسي الفلسطيني بما يتجاوز التقسيمات التي صارت هي مصدر الشرعية الأساسية للسلطة الفلسطينية. هذا بالضبط مصدر خوف الأخيرة. فالتفكير في فلسطين كاملة، وبأسئلتها كأسئلة مشتركة، لا ينزع الشرعية عن منظمة التحرير، ولكنه ينزع الشرعية عما يراد للمنظمة أن تكون؛ منصة للخلافات بدلًا من الوحدة، والشرذمة بدل التمثيل.