05-يوليو-2024
منظمة التحرير

(Getty) مخيم اليرموك في سوريا بعد اندلاع حرب غزة في تشرين الأول/أكتوبر 2023

لطالما شعر فلسطينيو الشتات، بعد أوسلو، أن فلسطينيتهم منقوصة بسبب فقدان تمثيلهم الشرعي والقانوني. ولطالما شعروا بأنه جرى التخلي عنهم في سياق السعي إلى مشروع الدولة بدلًا من مشروع الاستقلال الوطني الذي كانوا جزءًا أساسيًا منه.

ومع تقدم الوقت، وكثرة الخطط الاستراتيجية الرامية لمحوهم من أجل التخلص من صداع حق العودة، بات الحديث عن سكان مخيمات سوريا ولبنان والأردن يشبه الحديث عن كائنات من عالم آخر، لأن الإهمال المديد لم يزد من تهميشهم وحسب، بل وضعهم خارج دائرة السردية الفلسطينية بشكل جائر، لأنهم لا يعيشون رعب الفصل العنصري والحصار والاستيطان والإبادة الجماعية.

لكن تبقى المعجزة الفلسطينية دائمة التكرار والحدوث هي المقاومة. ففي كل مرة مرحلة يُلقى فيها الفلسطينيون إلى المجهول والنسيان تنهض إرادتهم الحرة بهم من القاع الذي وصلوه، وتعيد جمع أشلائهم في صيغة جديدة. وهذا ما حدث مع انطلاقة فصائل الكفاح المسلح في ستينيات القرن الماضي، وقبلها في النضال داخل فلسطين في عهد الاستعمار البريطاني، خصوصًا في مرحلة ثورة 1936 – 1939، وظل مستمرًّا حتى حرب 1948. وحدث أيضًا في الانتفاضتين الأولى والثانية. ولكل مرحلة من هذه المراحل أعلامها وتياراتها التي كانت تجمع الأجزاء الفلسطينية في إطار وطني وثقافي ونفسي.

تكتسب فكرة "المؤتمر الوطني الفلسطيني"، أهمية بالغة، كونها تُشكّل فرصة حيوية لإعادة التفكير في النظام السياسي الفلسطيني وأسئلة التمثيل المغيبة والملحة فيه

تفعل المقاومة والشهداء والتضحيات ذلك ببساطة، لأن الفلسطينيين يعرفون أن كل مجزرة هي فصل في مأساة كبرى، وكي لا يرغمون على مآسٍ أخرى ينبغي أن يقاوموا ويوقفوا القطار المجنون من سحقهم تحت عجلاته.

إلى جانب كل ما تحقّقه، يبقى أهم إنجازات المقاومة الفلسطينية هو ذلك الشعور الذي يضرب أجساد وعقول أهل الشتات، المهمشين والمنسيين، بحقيقة ساطعة هي أن قضية الشعب الفلسطيني واحدة، وأنه بالإمكان تجاوز التجزيء، لكن مأساة القضية أنها تتعقد مع وجود سلطة تعيش العبودية الطوعية إذ تعمل في خدمة المشروع الاستعماري، وفوق ذلك تستحوذ على منظمة التحرير وتمنع تفعيل مؤسساتها وممارستها لدورها الحيوي، وبذلك يرتسم فوق الصراع الأساسي مع المشروع الاستعماري الاستيطاني صراع استنزاف آخر.

ضمن هذا المسار، تكتسب فكرة "المؤتمر الوطني الفلسطيني"، أهمية بالغة، كونها تُشكّل فرصة حيوية لإعادة التفكير في النظام السياسي الفلسطيني وأسئلة التمثيل المغيبة والملحة فيه، ومواجهة أزمة المشروع الوطني، ورسم مسار جديد يعيد الأمل للفلسطينيين في الداخل والخارج.

ولأنه لا يمكن الحديث عن الوضع الحالي دون الانغماس، فكرًا وشعورًا، في حرب الإبادة التي تتجول في أنحاء قطاع غزة، سنرى كيف يمكن لاجتماع المأساة والمقاومة أن يوحد الشعب الفلسطيني، على الرغم من غياب المشروع الجامع، وتمزقه الجغرافي، وغياب تمثيل جزء كبير منه.

يجري تقسيم فلسطين من خلال تقسيم مشكلات أهلها، بحيث يُعرَّف كل منهم بما يواجهه: فلسطينيو الضفة محكومون بالفصل العنصري والاستيطان وقضم الأرض، وفلسطينيو غزة وقود لحرب الإبادة وليس أمامهم سوى الرحيل في ظل عدم صلاحية المكان للحياة، وفلسطينيو المناطق المحتلة عام 1948 عليهم أن يعيشوا مواطنة منقوصة وتهديدًا ثقافيًا. أما فلسطينيي الشتات فعليهم التعايش مع النقص والحرمان من الجنسية، كما أن عليهم أن يقفوا عاجزين أمام مخططات محو حق العودة.

وحين تأتي فكرة إنجاز مؤتمر وطني فلسطيني من قبل شخصيات فلسطينية متنوعة منشغلة أولًا بهذا الهم، في هذا الوضع الكابوسي بما فيه من مأساوية وتجزيء، فإنها تقول إن الجهد الحقيقي يكمن في العمل على ملف فلسطين الموحّد، بغض النظر عن محاولات الأعداء والحلفاء لتجزئته. فمن خلال التوحيد فقط يمكن الحديث عن تمثيل للفلسطينيين في كل مكان، والعودة إلى إطار وطني جامع يقوم على الثوابت الوطنية. والعمل من أجل خلق قيادة فلسطينية موحدة قادرة على استعادة الوزن السياسي المفقود، وربط النسيج المتشظي مجددًا.

الوصول إلى قيادة موحدة تقود المركب في هذه المرحلة الحساسة، خصوصًا في ظل مخططات فاجرة لما يسمونه "اليوم التالي"، أصبح ضرورة أكثر من أي وقت مضى، مع استمرار السعي لتهجير سكان الضفة والقطاع على المدى الطويل، إذ ليس بوسع الفلسطينيين سوى الاستناد على معاناتهم وإنجازات مقاومتهم، وهاتان لا تفضيان إلا إلى طريق ذي اتجاه واحد هو بيت الكل الفلسطيني، ذلك الذي سبق لنا أن بنيناه رمزيًا، وعلى مدى أكثر من قرن. بهذا المعنى، لا يمكننا أن نرى "المؤتمر الوطني الفلسطيني" سوى بوصفه خطوةً جادة في طريقنا نحو هذا البيت.