لستُ هناك، لكنّ القلب أسبقُ من الجسد في التواجد، إن كان في الأمر وصال للأهل والأحباب في ظل تباعد الأماكن على اختلاف المسافات، هذا بالسّلم! فما بالك في خضم مطحنة العدوان الفاشي.
إلى أين ينزح النازح وقد انتهت وجهات الإيواء وأُعدمت خياراته إلا من ملاذٍ أخير تشكّل على هيئة خيمة
رفح، ليست بخير، ينزح النازح إلى اللامكان. إلى أين ينزح النازح وقد انتهت وجهات الإيواء وأُعدمت خياراته إلا من ملاذٍ أخير تشكّل على هيئة خيمةٍ هشّة، أكثر من مليون ونصف بشري يعيشون تحت غطاء من قماش لا تصلح أحواله للظروف المعيشية الآدمية، بضعة أمتار بينهم والموت، وهو كذلك في كل القطاع فإن لم تكن أمتارًا فهي لحظات.
أهل رفح تائهون بين التهديدات السياسية المحفوفة بخطوات التفاؤل، والمجريات الميدانية العسكرية المغلفة بالدم، تغشاهم الصدمة من نزع الاحتلال لفرحتهم اللحظية بموافقة أحادية الطرف حول إمكانية العيش أو محاولة العودة للحياة.
أهل رفح لا يفكّرون بالقوت بقدر ما تسرقهم فكرة النجاة، لقيماتهم مغمّسة بالدم، لا تنقطع الاتصالات عنهم وبينهم ابتغاء الطمأنينة رغم شيخوخة الشبكة، لا تتوقف المحاولات رغم علمنا بانعدام جدواها أملًا في الاستماع لصوت يُعلن البقاء. يغادرون لغاية تحمّل دلالة استحقاق الحياة كجلب الماء أو إحضار الدواء فيعودون على الأكتاف أحياء يرزقون في غير دنيانا حيث حقيقة الحياة، يضحكون ضحكة مودع، ويصلون باستحضار خشوع الصلاة الأخيرة، يقيمون الليل رجاء السلامة، ويستيقظون على صدمة النجاة وهم يرددون ما كان يراودهم حتى في أحلامهم "اللهم سلّم سلّم"، يجتمعون بلهفة المشتاق رغم ديمومة الحضور، وينسجون جملًا تخلّد ذكراهم ما قبل الرحيل.
أهل رفح يعيشون في صحراء لا يسكنها سوى طوابير من الأقمشة البيضاء وقواعد لا تحجب حرارة الشمس بل تُفاقم من أذى شدتها، ولا تقي برد الشتاء بل تجتمع مع القطرات على تسريع انهيارها، لتشهد على رجفة البردان، وقشعريرة المريض ومن ليس له ثوب ولا غطاء. لا يخرج النازحون بأكثر من ثياب كغطاء للستر الذي لا يفارق في عقيدتهم طوق النجاة، ارتدوا ثيابًا مجردةً من الممتلكات، انتشلوا حقائب مختصرة في جيب الضرورة بأهم ورقة، وأهم جهاز، وأهم بطاقة، وأهم ميثاق وصورة، ووريقات من المال تُسعف حاجتهم في وسعة الطريق التي يحيطها الموت من كل جانب، وتنتهي عند آخر آفاقها المدينة، لا مسكن للخوف سوى القلوب حين لم تجد الأجساد المساكن.
سُكان رفح وفي مقدمتهم النازحون للأطراف القاحلة من المدينة يعانون من هواجس القتل، وكابوس الفقد، يشوبهم اختلاط الأفكار، يتحسسون صرخة الهروب وسط ضجيج الضربات القاسية، لتُمسي العلامة الأخيرة للفرار من دنو الموت في ظل تضارب الأحداث، يبحث الناجون عن الشهداء رغم تأرجح وعيهم الخارج من تحت الركام، ويتفقّد الأحياء الجرحى رغم بقاء الخطر يحلق فوقهم مع احتمالية تكرار القصف وسط تصاعد ضجيج الاستهدافات وسرعة تنقّل مزهقي الأرواح.
في رفح يصيب التصلّب من تمكّن منه الحصار، ويحيط الغثيان بالثكالى، يُصاب الشباب بصعقات الأنباء، ويبكي المكلومون رحيل الأشقاء، وقطع الروح مع كل إعدام للأبناء، يرْثُون انغلاق بوابات الجنة بفقد الأمهات، وانسداد نوافذ الرضى بقتل الاحتلال للآباء.
رفح التي نزح إليها الآلاف ابتغاء العلاج حين غاب الدواء عن شمال القطاع، وهربًا من شبح المجاعة التي ضربت الشمال ففتكت بشبابها، وأهلكت من شاب فيها.
رفح "قلعة الجنوب" التي لم يدخلها بعض النازحين إلا تحت تهديد القناص وتتبع ضوئه الأحمر لمسارٍ رسمه سارق البلاد لأهلها، دخلوها وخطواتهم تتسارع مع نبضاتهم في زحمة الإخلاء القسري من بين جنازير الدبابات ورشاش الطائرات على اختلافها علّهم ينعمون بلحظة النجاة، وهم الذين حلم بعضهم بأن تطأ أقدامهم رفح برغبة المحب لبلاده بنزهة السفر المتبوعة بعودة قريبة لا تفرق بينه وبين تراب البلاد.
لقد كانت رفح. وأن لا يدخلها الأعداء، وأن لا تفوح منها رائحة الدماء، هي رجاء فرجنا المبتغى، وقبلة دعائنا الذي لم ينقطع بأن تكون مُحصنةً من كل عبثٍ نازي، ومعصومةً من بشاعة الجرائم التي لا تفرق بين البشر والحجر، وأن تكون أسطورة الأمان النسبي في وقت الفزع، فيتوقف العدوان عند حدودها بسلام ويكون خبر وقف إطلاق النار المستدام بردًا وسلامًا على من فيها، ومن ينتظرهم، ومن يتمنى لغزة الفوز بالنجاة بقدر ما يُبدع أهلها بانتزاع الحياة.