بُثت الإبادة الجماعية وجرائم الحرب الإسرائيلية ضدّ الشعب الفلسطيني بغزة على الهواء مباشرة، وشاهدها العالم كلّه نتيجة تضحيات وتفاني الشجعان من المراسلين والصحفيين والقنوات الفلسطينية والعربية ونشطاء السوشيال ميديا والإعلام الجديد. كما شارك الاحتلال نفسه أيضًا في نقل تلك الجرائم للعالم عبر قيام جنوده بنشر مشاهد لتفجير مربعات سكنية ومؤسسات ومرافق ومصانع وبنى تحتية.
6 أسباب تدفع "إسرائيل" للتمسّك بالبقاء في ممر نتساريم الذي يفصل شمال القطاع عن جنوبه، والإبقاء على المنطقة الحدودية العازلة
رغم ذلك كلّه فقد كان لافتًا، وبالطبع مريبًا أن أبقى الاحتلال وما يزال، ممر نتساريم والمنطقة العازلة الحدودية بعيدًا عن الأضواء والإعلان، وحتى من تمكَّن من المراسلين الحربيين الإسرائيليين والصحفيين الأجانب كتبوا عنها، لكن دون صور أو فيديوهات تشرح وتصف ما جرى ويجري.
ممر نتساريم هو طريق قام الاحتلال بشقِّه وتعبيده كي يقطع قطاع غزة عرضيًا من الشرق إلى الغرب، ويمتد من الحدود مع الأراضي المحتلة عام 1948 شرقًا حتى البحر، وغربًا بطول 6 كيلومتر وعرض عشرات الأمتار في منتصف القطاع تقريبًا، حيث منطقة وادي غزة وجحر الديك والمغراقة والزهراء شمال مخيم النصيرات الجديد والمنطقة الوسطى ومحيط مستوطنة نتساريم سابقًا. أي أنه يتموضع بموقع استراتيجي ويقطع شارع ومحور صلاح الدين الذي يمتد بطول القطاع من بيت لاهيا شمالًا إلى رفح جنوبًا.
اتّبعت "إسرائيل" سياسة الأرض المحروقة بمحيط طريق أو ممر نتساريم، وخلقت ما تشبه المنطقة العازلة المصغّرة حوله عبر قصف وتدمير مربعات سكنية كاملة في المنطقة، تحديدًا شمال النصيرات والمغراقة ومدينة الزهراء التي محيت أبراجها العامرة -التي تضم آلاف الشقق السكنية- عن بكرة أبيها.
كان لافتًا التحضير لذلك منذ بداية العدوان البري ضد غزة نهاية تشرين أول/ أكتوبر الماضي مع توغل دبابات جيش الاحتلال في هذه المنطقة لفصل القطاع إلى قسمين، ثم جرى بعد ذلك شقُّ الطريق أو الممر من الشرق إلى الغرب.
صحيفة هآرتس قالت (الجمعة 19 نيسان/ ابريل) إنها اطّلعت على صور أقمار صناعية وأخرى فوتوغرافية التقطت بالمكان (الثلاثاء 16 نيسان/ ابريل) وأظهرت قيام جيش الاحتلال ببناء بؤرتين استيطانيتين، لأول مرة في غزة مع بيوت متنقلة مجهزة بمكيفات ومرافق خدماتية وصحية وبني تحتية أخرى. وكان لافتًا أنها لم تنشر تلك الصور، واكتفت بالقول إنها اطّلعت عليها وقامت بتحليلها فقط.
لم ينشر الإعلام الإسرائيلي أي صور أو مقاطع فيديو لما يقوم به الجيش في ممر نتساريم
أمّا المنطقة العازلة الحدودية فتمتد بطول القطع من بيت لاهيا شمال غرب القطاع إلى بيت حانون شمال شرق ثم النزول جنوبًا مع الحدود نحو خانيونس ورفح، وتتوغل داخل القطاع بعمق كيلومتر تقريبًا، واستقطعت مساحة إجمالية تبلغ 60 كيلومترًا، ما يمثّل سُدس المساحة الإجمالية لقطاع غزة، والبالغة نحو 360 كيلومترًا مربعًا.
كما الممر، اتّبعت "إسرائيل" سياسة الأرض المحروقة في المنطقة العازلة، حيث قامت بتدميرها عن بكرة أبيها بما تضم من بيوت سكنية ومدارس ومساجد ومصانع ومزارع تربية الدواجن والحيوانات – كان القطاع يكتفي ذاتيًا منها – كما أنّ المنطقة تمثّل سلة غذاء غزة بالمعنى الدقيق للكلمة.
في السياق، كانت المنطقة مشهورة بأشجار الزيتون المثمرة، وللعلم والقياس فقد قام الاحتلال بتدمير 40 ألف شجرة كانت تنتج آلاف الليترات من زيت الزيتون الصافي والعالي الجودة كل عام.
الآن بالعودة إلى السؤال محور المقال، لماذا يبقي الاحتلال ممر نتساريم والمنطقة العازلة بعيدًا عن الأضواء والإعلام رغم بثِّ الإبادة الجماعية وجرائم الحرب على الهواء مباشرة بما في ذلك الإعلام العبري نفسه الذي يتحدث بشكل عام ومختصر عنها. علمًا أن أحد المراسلين العسكريين قام الأسبوع الماضي بنشر مائدة عيد الفصح اليهودي رفقة جنود جيش الاحتلال داخل خيمة بممر نتساريم لكن دون عرض المشهد والمحيط بشكل عام.
يكمن السبب الأساس وراء التعتيم الإسرائيلي على الممر والمنطقة العازلة بنيّة تل أبيب فرض وقائع بشكل غير شرعي وقانوني في غزة، بما في ذلك الاستيطان نفسه ولو نظريًا، عبر خلق بنى تحتية صالحة ومناسبة لإكمال المشروع فيما بعد. وهُنا، نرى محاولة لإرضاء المستوطنين المتطرفين في الحكومة الإسرائيلية كما جنود جيش الاحتلال الذين نشروا صورًا وعبارات مماثلة أيضًا عن الرغبة بالعودة للاستيطان بغزة.
سبب آخر يتمثل بالديمومة أو البعد الدائم بمعنى أنّ "إسرائيل" تستبطن الرغبة بالسيطرة لفترة طويلة على الممر والمنطقة العازلة تمتد لسنوات، حيث قال الجنرال بيني غانتس لطلاب المرحلة الإعدادية الأسبوع الماضي إنهم سيشاركون في الحرب بغزة ما يعني أنها ستستمر أربع سنوات بمرحلتها الثالثة وفق اتباع نموذج "جنين/ طولكرم/ نابلس" في الشجاعية وخانيونس وجباليا كما يقول بيني غانتس نفسه دائمًا.
من هذه الزاوية يمكن الاستنتاج أنّ ثمة أهداف عسكرية أيضًا تتمثل بسهولة التوغل بالقطاع متى شاء الاحتلال بسهولة ويسر سواء من البر شرقًا أو البحر غربًا.
أحد الأهداف الإسرائيلية يتمثل كذلك بالمساومة على عودة النازحين إلى شمال غزة وحركة الغزيين داخل القطاع بشكل عام، حتى ضمن هدنة مؤقتة ومرحليّة تتحدث عن ابتعاد جيش الاحتلال عن محور صلاح الدين 500 متر وانكفاء مؤقت عن تقاطع ممر نتساريم مع المحور نفسه.
تبدو المنطقة العازلة أكثر خطورة كونها تأخذ أكثر الصفة الاستراتيجية وتمثل من جهة أخرى عقابًا للفلسطينيين، كما قال الوزير السابق جدعون ساعر بداية عن أنّ الحرب والانتقام وجباية ثمن جغرافي وتقليص مساحة القطاع، وسلب أراضي وثروات ومقدرات وممتلكات هي عقاب لأهالي غزة لجرأتهم على مهاجمة "إسرائيل"، ولمنعهم من التفكير بفعل ذلك مستقبلًا.
سبب إضافي للتعتيم الإسرائيلي على الممر والمنطقة وإبقائهما بعيدًا عن الإعلام والأضواء، يتعلق بالرفض العربي والدولي الواسع حتى الأمريكي الأوروبي للممارسات والوقائع الإسرائيلية غير الشرعية بغزة.
ثمة سبب أخير يتمثل بالمساومة فيما يوصف باليوم التالي للحرب، وحتى لو انسحب جيش الاحتلال فستبقى المنطقة العازلة مدمرة ومفتوحة داخل القطاع لكن مع السيطرة عليها تكنولوجيًا (رادارات وأجهزة استشعار ومراقبة) وناريًا مع انكفاء جيش الاحتلال إلى الأراضي المحتلة عام 1948. بمعنى خلق مساحة مفتوحة ومكشوفة يمكن المراقبة عبرها ومنع عمليات أخرى شبيهة بـ "طوفان الأقصى 2".
كان الرد على الممارسات والوقائع الإسرائيلية السابقة وما يزال سياسيًا بامتياز خاصة مع انتهاء الحرب، كما شهدناها خلال الأشهر السبعة الماضية وصعوبة وحتى استحالة إجبار الاحتلال عسكريًا على الانسحاب من الممر والمنطقة العازلة.
مطالب المقاومة بوقف النار والانسحاب النهائي مُحقّة، ولكنها تتعلق باليوم التالي للحرب، بينما الوقائع فرضت فعلًا على الأرض
ولا شك أن مطالب المقاومة بوقف النار والانسحاب النهائي مُحقّة، ولكنها تتعلق باليوم التالي للحرب، بينما الوقائع فرضت فعلًا على الأرض، ومن هنا يرتبط الرد حتمًا بضرورة بلورة موقف فلسطيني موحّد وطلب الدعم العربي والإقليمي والدولي له.
الموقف الفلسطيني لابد وأن يتضمن تشكيل حكومة توافق موحدة لإدارة القطاع كي تخلق من جهتها وقائع تترجم رفض تواجد الاحتلال بالممر والمنطقة العازلة من حيث المبدأ، وتصر على عودة أهلها سكانًا ومزارعين وصناعيين إليها.
هذا يتطلّب كذلك أداءً سياسيًا مغايرًا، وتشكيل قيادة وطنية موحدة لحشد الدعم العربي والإسلامي والدولي للرواية الفلسطينية، وفي السياق يجب على حماس أن تستوعب حقيقة صعوبة وحتى استحالة الاحتفاظ بحكم غزة، وعلى سلطة رام الله تبني مقاربة جديدة بعيدًا عن ذهنية الاستجداء والتذلل في ظل التضحيات الهائلة والأسطورية التي قدّمها الشعب الفلسطيني ولا يزال خلال قرن من الصراع والعناد والصمود في مواجهة المشروع الصهيوني الاستعماري.