هل جرّبت يومًا أن تستبدل قراءة التاريخ في الكتب، بالسير بين قصصه وآثاره ومعالمه؟ أو تسمع عنه ممن عاشوا جزءًا منه؟ دعنا نصحبكم في رحلة من هذا النوع، إلى قريتي حجة وسنيريا في قلقيلية.
الصور هُنا لا تُغني عن رحلة إلى القريتين، حيث ستجدون سيرًا لغزاة وفاتحين سطرت وجودهم حجارة اصطفت، ورسائل كُتبت، وشهادات ترويها الألسن
حجّة أو حجّا الواقعة في منتصف المسافة بين نابلس وقلقيلية، لكنّها تتبع إداريًا للأخيرة، ستذكّر بلدتها القديمة من زار منكم دمشق القديمة بأزقّتها وتجواله فيها، ومن لم يزرها، بإمكانه أن يلقي نظرة على "الشام" من خلال الملامح المشابهة لها هُنا.
الحجارة التي ترتّبت على مدى الطريق تدلك على عبق الحضارة التي يفوح شذاها مختلطًا برائحة زهر الياسمين الذي يزين البيوت هناك، ورغم قدمها فإنها ما زالت عامرة بالسكان، بل إن البعض يقصدها ليعيش فيها.
مسجد حجة القديم يُعد أحد المعالم الأثرية والتاريخية والدينية في القرية. ورغم قدمه، فإن هناك الكثير من البنايات حوله أعاد المؤرخون وجودها إلى آلاف السنين. وحسب التوثيق والسجلات، فإنّ المسجد القديم في حجة يعود تاريخُه إلى سنة 723 هجرية، في عهد السلطان الناصر أحمد بن قلاوون.
قرية حجّة في قلقيلية كانت تدعى "أم المئذنة" قديمًا، بسبب مئذنة فيها من أقدم المآذن في فلسطين، ومسجدها أقامه السلطان أحمد بن قلاوون
يروي لنا الشيخ محمود الربع، إمام المسجد القديم في حجّة، قصة بناء المسجد مبينًا، أن السلطان أحمد بن قلاوون أراد أن يكافئ أحد علماء حجّة بعد انتهاء خدمته في مصر، وهذا العالم يُدعى محمد بن موسى، ويُقال إنه كان مريضًا وأراد أن يصنع شيئًا لبلده، فطلب من السلطان أن تكون مكافأته بناء مسجد في بلده.
اقرأ/ي أيضًا: "عناب الكبير" من عنب البيزنطيين لزيتون فلسطين
تشير الروايات إلى أن البنائيين انطلقوا من قلعة رأس العين الواقعة بين اللد والرملة، إلى قرية حجّة لبناء هذا المسجد. يقول الشيخ الربع: "في سنة 753 هجرية بُنيت مئذنة المسجد، وللعلم في تلك الفترة كانت المساجد كثيرة، ولكن المآذن التي بهذا العمر وهذا القدم قليلة جدًا".
يبين الحاج حسني حجاوي (93 عامًا) من حجة، أن القرية قديمًا كان تدعى "أم المئذنة"، لتميزها بمئذنتها.
ومئذنة المسجد مثمّنة الأضلاع منتظمة، لها درجٌ لولبيٌ من الحجر يصل أولها بآخرها. أما المسجد فمقسم من الداخل إلى 10 أروقة، أو كما تسمى بالعامية "لواوين"، ففيه المتوضأ، وسكن الإمام، وضريح لإمام المسجد الأول ومؤسسه، الذي كان يلقب "إمام الناحية"، وهو العالم محمد بن موسى. وقديمًا كان يوجد كُتّاب تابع للمسجد، يقصده الطلاب من القرى المجاورة للدراسة والتعلم، كما أخبرنا الشيخ الربع.
في السابق كانت حجة ناحية، إذ كانت فلسطين سابقًا مقسمة لنواحٍ، وحجّة ومسجدها كانا مركزًا يديران وينظمان المناطق التي حولها
يقول الإمام الربع، "تم تغيير جدران المسجد في حقب زمينة عدة. وأساسًا تم إنشاء المسجد على أنقاض بنايات قديمة، فكل واجهة من واجهات المسجد تعود لحقبة زمنية مختلفة". عند خروجك من المسجد سترى حجرًا خُطَّت عليه عبارة غير منقوطة، يظهر فيها إهداء السلطان قلاوون المسجد للعالم بن موسى، ولا زال المسجد يؤمه الناس وتقام فيه الصلوات حتى يومنا هذا.
وتوصف حجة بأنها "عاصمة قلقيلية التراثية"، فلا زالت تحتفظ بآثارها القديمة بشكل شبه كامل، ولا تزال ملامح التاريخ بادية على مبانيها، ومع ذلك فإن هناك إهمالاً وتقصيرًا في جهود الترويج لها كمكان سياحي، وفق ما أفادنا به غسان حجاوي، الرئيس السابق لمجلس قروي حجة.
ويخبرنا الحجاوي، أن أماكن قديمة في القرية تحولت لأنقاض، لكن أماكن أخرى لا تزال بحال جيدة، منها "المضافة"، وحالها ممتاز بعد أعمال الترميم.
ومما تواصل حجة احتفاظها به "البدود" الأربعة. و"البد" فيه حجرٌ كبيرٌ مفتوح الوسط، على قاعدة حجرية. ويدير القاعدة بغلٌ وفيه يُطحن القمح. وإضافة إلى البدود توجد خِرب وآثار قديمة. يقول الحاج حسني: "قديمًا كانت كل العائلة تعيش في عقد واحد (بيت صغير) أما شباب اليوم فلا يتزوجون إلا بمنازل مستقلة".
في عام 2014، تم تمثيل مسلسل "الأغراب" من إخراج بشار النجار في البلدة القديمة بقرية حجة. "استفادت حجّة من المسلسل بترويجه لآثارها، واطلاعه الناس على أن حجة قرية سياحية بامتياز"، يقول حجاوي.
اقرأ/ي أيضًا: بالصور: قرية كور.. وحنين لأيّام "عزّ"
من شمال قلقيلية إلى جنوبها، حيث قرية سنيريا، ستلمسون بأيديكم اختلاط الحضارتين الرومانية والإسلامية، وأنتم تشاهدون البرك الرومانية، والأحواش المبينة على النمط المملوكي، إضافة إلى معصرة الزيتون القديمة، وغيرها من المعالم الأثرية والتاريخية.
تتحدث رواياتٌ عن وجود قرية تحت قرية سنيريا. يدلّل الناقلون لهذه الروايات على صحتها بأن أهل القرية وجدوا أكثر من مرة في أعمال الحفر الكثير من الكهوف تحت الأرض.
يبين أسامة الشيخ الموظف في مجلس قروي سنيريا، أن القرية كانت تسمى سابقًا "دير سنير"، وكلمة "سنير" تعني الحصن، مضيفًا، أن بعض الروايات تشير إلى أن المسجد القديم في القرية كان كنيسة.
تفيد رواياتٌ أخرى بأن القرية تُنسب إلى مؤسسها الشيخ عيسى السنيري، الذي أتاها من بلاد الشام وأقام فيها. ويُقال أيضًا، إن السنيري سكن القرية إبان الحروب الصليبية كمراقب، لمراقبة تحركات الجيوش الصليبية وإبلاغ الجيش الإسلامي بها، بهدف إبقائه مطلعًا على ما يجري في المكان.
يقول حمزة الشيخ مسؤول المسجد القديم في سنيريا، إن إقامة المسجد بدأت منذ وصول القائد المسلم أبو عبيدة عامر بن الجراح إلى القرية، إذ أراد أن يصلي فلم يجد إلا كنيسة، فبنى إلى جانبها مسجدًا، ثم عند حضور الشيخ السنيري أقام المسجد مكان الكنيسة.
في قرية سنيريا قضاء قلقيلية مسجد يعتقد أن بانيه أبو عبيدة الجراح، وكهوفٌ تحت الأرض أحدها يحوي جثثًا تختلف حولها الروايات
يضيف، "حين مات السنيري دُفن في المكان الذي بناه أبو عبيدة، فبجانب المسجد القديم في سنيريا هناك ضريح به قبر الشيخ عيسى السنيري وزوجتيه". فيما يتحدث أشخاصٌ آخرون من القرية عن أن الضريح يضم قبر السنيري وأبناؤه الثلاثة، الشيخ ويونس وإعمر، الذين تُنسب إليهم العائلات الثلاث الرئيسية في القرية.
وكتب على مدخل الضريح بلغة عربية غير منقوطة: "بسم الله الرحمن الرحيم، أمر بتجديد المسجد المبارك العبد الفقير إلى الله تعالى الشيخ الصالح زين الدين عمر بن المرحوم الشيخ عيسى السنيري نفع الله به، وذلك في شهر ربيع الأول من شهور سنة تسع وسبعون وثمانمائة أحسن الله عاقبته...آمين".
أسفل المسجد كهفٌ قديمٌ بداخله جثث، تدعي إحدى الروايات المتداولة في القرية، أنه الكهف الوارد ذكره في القرآن الكريم، وأن الجثث الثلاثة لأصحاب الكهف، وقد كانت واضحة كاملة، والملابس عليها. تزعم الرواية أيضًا، أن "شخصًا إبان الاحتلال البريطاني دخل الكهف وشرع بتكسير عظام الجثث كنوع من التحدي، ثم ما إن وصل آخر الطريق حتى وقع عن حصانه ومات". فيما تفيد رواية أخرى أن الجثث تعود لشهداء ارتقوا أيام الحروب الصليبية.
البيوت الأثريّة القديمة تُهدم، لإقامة أبنية جديدة مكانها
يقول أسامة الشيخ، إن التوسع السكاني أثّر بشكل كبير على آثار القرية، "الناس تهدم البيوت القديمة لتبني مكانها، صحيح أن جزءًا من البيوت القديمة عامر بالسكان، إلا أن الجزء الأكبر تم هدمه، كما أن الترويج للبلدة القديمة سياحيًا معدوم، عدا عن أن الآثار مهملة دون ترميم، وتتعرض للنبش".
تجدر الإشارة إلى أن الاعتماد على الأقاويل والروايات المتناقلة من جيلٍ لآخر، يرجع لعدم وجود تأريخٍ للمباني والآثار القديمة في سنيريا، ما يفتح المجال أمام تأليف رواياتٍ غير دقيقة وتمريرها على حساب الحقيقة التاريخية التي من شأنها منح القرية ومعالمها الأثرية قيمة أكبر.
اقرأ/ي أيضًا:
"عبد الله اليونس" برعمة بين أشواك الاحتلال