يواصل فلسطينيون من قطاع غزة خوض رحلات بين فكي الموت، محاولين الوصول إلى الأراضي الأوروبية، هربًا من تبعات الحصار الإسرائيلي المتواصل منذ 16 سنة. ولا يبدو ممكنًا نجاح رحلات التهريب هذه من الحاولة الأولى أو الثانية، بحسب قصص رصدها الترا فلسطين، لكن رغم ذلك، لا تشكل التجارب الشخصية ولا الأخبار المتتالية عامل ردع لوقف هذه المحاولات.
يتحدث أنس الغلبان لـ الترا فلسطين عن تسع محاولات للوصول إلى أوروبا من تركيا ثم اليونان عن طريق البحر، دفع فيها أكثر من 10 آلاف دولار لمهربين، ولم يحقق فيها شيئًا أكثر من الحفاظ على حياته، بفضل قدرته على السباحة
الشاب أنس الغلبان من خانيونس، غادر غزة بعمر 18 سنة، بعد أن أصبح يرى نفسه "هرمًا عاجزًا ليس كبقية شباب العالم" كما يقول، رغم تميزه في السباحة وحصوله على ميداليات في بطولات عديدة، وبعدما حاول إنهاء حياته أكثر من مرة، وأنقذته في جميعها أمه، التي قررت في النهاية بيع ذهبها لتأمين مصاريف السفر.
ويتحدث أنس الغلبان لـ الترا فلسطين عن تسع محاولات للوصول إلى أوروبا من تركيا ثم اليونان عن طريق البحر، دفع فيها أكثر من 10 آلاف دولار لمهربين، ولم يحقق فيها شيئًا أكثر من الحفاظ على حياته، بفضل قدرته على السباحة.
ويقول: "كنا ندفع الأموال سلفًا للمهربين، قبل أن نستقل المركب، وبالرغم من خطورتها إلا أنها أقل مبالغ من التهريب عن طريق البرّ، وفي كل مرة كنت أدفع ما يزيد عن 1200 دولار".
في كل مرة كان "الطرّاد" اليوناني يعترض طريقهم في البحر، ويعيدهم إلى الأراضي التركية. حتى أن أنس كان مطاردًا من بيت إلى بيت في تركيا، بسبب عدم امتلاك جواز سفر، وذلك عقب تمزيق القوات التركية جوازه.
في محاولته العاشرة، وصل أنس الغلبان إلى برّ الأراضي اليونانية. يقول: "تعذبت أنا والشباب كثيرًا، فهناك من تقيأ دمًا بسبب شربه من ماء في وادٍ بعد وصولنا للأراضي اليونانية، ويبدو أنهم أصيبوا بتسمم".
من جانبه، أيمن دواه (39 سنة) معظم محاولاته للخروج من تركيا إلى أوروبا كانت عن طريق البرّ، "ولم أخرج إلى البحر إلا مرة واحدة، ولم أعد إليه لأن العشرات غرقوا وماتوا أمام عيني في منطقة أزمير"، مبينًا أنه في هذه الرحلة كان برفقة 10 أشخاص من غزة، ومعهم أطفال ونساء، إضافة إلى لاجئين سوريين، "ومات من مات، ونجا من نجا بعد الاتصال بخفر السواحل ووصولهم في اللحظات الأخيرة" حسب قوله.
أيمن كان في رحلته البحرية اليتيمة على مقربة من الوصول للجزر اليونانية، لكنه كاد يفقد زوجته وأبناءه، بعد الملاحقة والضرب وثقب البالون، والإلقاء بالمحرك في البحر.
يعتقد أيمن أن الجهة التي اعترضته خفر سواحل أوروبيين، وقد بدأوا بإطلاق الرصاص، واعتدوا عليهم بالضرب وجردوهم من ملابسهم، ثم ألقوا بالجميع في النهر الفاصل بين اليونان وتركيا
ويواصل حديثه شارحًا إحدى رحلاته البرية قائلاً: "اتفقنا مع المهرب عن طريق مكتب. دفعنا له خمسة آلاف يورو، وانطلقنا في المركبة، لكن في منتصف الطريق أوقفونا وهرب السائق". يعتقد أيمن أن الجهة التي اعترضته خفر سواحل أوروبيين، وقد بدأوا بإطلاق الرصاص، واعتدوا عليهم بالضرب وجردوهم من ملابسهم، ثم ألقوا بالجميع في النهر الفاصل بين اليونان وتركيا.
ونتيجة لذلك، أصيب أطفال أيمن وزوجته بالأمراض، وعادوا إلى تركيا وقد خسروا كل شيء. فلا ملابس، ولا مال، ولا علاج أو طعام، بل إنهم فقدوا حتى أثاث البيت بعدما كان قد باعه لدفع ثمن الرحلة البرية للمهرب.
يقول أيمن: "دفعت 15 ألف يورو وزيادة للمهربين. أما الآن فلن أعود إلى رحلات الهجرة، حتى أستعيد قوتي وقوة أبنائي. علي أن أحاول العمل حتى أطعمهم وأعالجهم، وأوفر لهم ملابس الشتاء، فهنا في تركيا الشتاء قاتل".
أما سند لطيفة (25 عاما) فكان محظوظًا بوصوله إلى أوروبا من محاولة التهريب الأولى، التي دفع للمهربين فيها 3500 يورو، إلا أن 5 أشهر من العذاب (من يونيو حتى نوفمبر 2021)، بين مافيات اليونان والسلطات التركية والإسبانية، كانت كرحلة ألف ليلة وليلة من العذاب.
يجيب سند لطيفة على سؤالنا حول كيفية الاتفاق مع المهربين قائلاً: "لا يوجد اتفاق، هي مجرد أرقام على الواتساب، نتواصل معها، ولا نرى أو نقابل أي أحد، هي ضربة حظ فقط". أما الدفع فيكون عند التوجه إلى البحر، قبل ركوب البالون الذي يكفي لأربعة أشخاص، لكن في الواقع يستقله 30 أو 40 شخصًا "بسبب جشع المهربين" كما يقول.
عندما دخل سند البحر، كان يرى أن فرصة النجاة لا تتجاوز 10%، مقابل 90% هي احتمالية الموت. وفي عمق البحر، يضيف سند، "كان المشهد مرعبًا. ولم نكن نشعر فيه بشيء إلا الخوف والنهاية"
عندما دخل سند البحر، كان يرى أن فرصة النجاة لا تتجاوز 10%، مقابل 90% هي احتمالية الموت. "شاهدت الفيديو وكيف كان يصرخ أحدهم ويقول: أكلنا السمك يا أمي، لكن هذا لم يجعلني أتراجع عن رحلتي، فخرجت بعدهم بساعات" أضاف سند.
وفي عمق البحر، يضيف سند، "كان المشهد مرعبًا. ولم نكن نشعر فيه بشيء إلا الخوف والنهاية. كنت أشعر بأنني داخل فم ديناصور أو تنين، لا أدري، لكنني قلت إنني سأموت".
في النهاية، نجا سند من فم البحر مثلما نجا من اعتقال سابق عند السلطات اليونانية استمر 20 يومًا، بعدما اعتقلته لتوجهه إلى المطار بدون جواز سفر. حدث كل ذلك دون أن يعلم أيٌ من عائلة سند -باستثناء شقيقه في بلجيكا- بأنه غادر غزة أصلاً.
وعلم الترا فلسطين أن مصير المهاجرين الذين يتم القبض عليهم ولا ينجحون في الوصول لأوروبا يكون واحدًا من سيناريوهين. الأول: أن تلقي السلطات التركية القبض عليهم وتسجنهم لأيام قليلة، قد يتعرضون خلالها للضرب، ثم تطلق سراحهم، فيعاودون محاولة الهجرة من تركيا عبر البحر أو البر.
أما السيناريو الآخر، فهو أن يقعوا في قبضة عناصر تابعين لخفر السواحل اليوناني أو السلطات اليونانية. وفي هذه الحالة (بحسب شهادات أدلى بها مهاجرون من قطاع غزة ولاجئون سوريون لـ الترا فلسطين) إما أن يقدم العناصر على إعدام المهاجرين داخل البحر بإطلاق النار على البالون الذي يستقلونه، أو عليهم بعد تجريدهم تمامًا من الملابس، أو يتم اعتقالهم وتسليمهم للسلطات التي تخضعهم للاعتقال والتعذيب مدة لا تقل عن شهر.
يؤكد الشهود، وبينهم صحافيون، أن نسبة عالية من المهاجرين الذين أعلن عن وفاتهم يموتون إعدامًا بنيران عناصر يونانية، وليس كما يُعلن بأنها حوادث غرق، لكن لم يستطع أحدٌ توثيق هذه الإعدامات حتى الآن
ويؤكد الشهود، وبينهم صحافيون، أن نسبة عالية من المهاجرين الذين أعلن عن وفاتهم في البحر كانوا في الواقع ضحايا إعدامات بنيران عناصر يونانية، وليس كما يُعلن بأنها حوادث غرق، لكن لم يستطع أحدٌ توثيق هذه الإعدامات حتى الآن.
وحسب إحصائية للمرصد الأورومتوسطي، فقد قضى في رحلات الهجرة غير النظامية عبر البحر أو البر منذ عام 2010 حتى هذا اليوم نحو 390 فلسطينيًا من أبناء قطاع غزة، عددٌ كبيرٌ منهم قضى في البحر خلال شهر أيلول/سبتمبر 2014.
وفي حديثه لـ الترا فلسطين، يشرح المختص في شؤون اللاجئين الفلسطينيين فايز أبو عيد (ويسكن في تركيا) أسبابًا تدفع الفلسطينيين في تركيا لمواصلة محاولة تكرار خوض رحلات الموت البرية والبحرية من تركيا إلى اليونان، مبينًا أن السبب الأساسي هو حدة العنصرية، وإصرار بعض الأطراف السياسية التركية على استخدام اللاجئين العرب في تركيا كورقة استقطاب للناخبين الأتراك.
ورأى أبو عيد، أن هذه الظروف "تجعل الحياة متساوية مع الموت" في نظر الفلسطينيين واللاجئين في تركيا، وبالتالي فإنهم "يبحثون عن مكان آمن لهم ولعائلاتهم في باطن المجهول" حسب تعبيره.