11-نوفمبر-2024
فيلم فرحة

شاهدت فرحة جرائم المليشيات الصهيونية من داخل بيت المونة

في ساعة ونصف، يروي فيلم "فرحة" قصة طفلة فلسطينية عاشت تفاصيل هجوم مليشيات صهيونية على قريتها، إبان النكبة الفلسطينية عام 1948، حيث أخفاها والدها في "بيت المونة" لحمايتها من هجوم المليشيات الصهيونية على القرية، وذهب للقتال في صفوف المدافعين عن قريتهم، وهكذا، من عيون فرحة في مخبئها الشبيه بالسجن، يعرض الفيلم جانبًا من الجرائم الصهيونية إبان النكبة، بما في ذلك قتل عدد من الأطفال بينهم رضيع.

اعتمد فيلم "فرحة" على السرد الذاتي الذي ينقل الأحداث من خلال وجهة نظرالشخصيات الحكائية ويقيد معرفة المشاهد بناء عليها، وقد أضفى هذا التوظيف للسرد إبداعاً ومنحت قرباً من الشخصية الرئيسية

يحكي فيلم "فرحة"، من تأليف وإخراج دارين ج. سلام، قصة حقيقة لسيّدة تُدعى "رضيّة" انتهى بها المطاف في سوريا بعد النكبة، وبعد عقود من تهجير الاحتلال لها تعود إلى قريتها عبر ذاكرتها وتخبرنا بقصتها. وعرض الفيلم لأول مرة في مهرجان تورونتو السينمائي الدولي في 2021، ثم عُرض على "نتفليكس" في كانون الأول/ديسمبر 2022.

يُشكّل المشهد الافتتاحي أهمية كبيرة في نجاح العمل السينمائي، لذا يولي صُنَّاع الأفلام  أهمية كبيرة له لدوره في جذب المشاهد ودفعه للاستمرارية من خلال التمهيد لعرض الأزمة. وفي فيلم فرحة، يبدأ العمل بعرض مجموعة من الفتيات يملأن الماء من ينبوع القرية، ثم يستمر الفيلم بعرض مظاهر الحياة الفلسطينية تباعًا وعرض مجموعة من الشخصيات والحوارات، التي لا علاقة لها بشكل أساسي بالنكبة والتهجير، وبالتالي فإن المشهد الافتتاحي شكل نقطة ضعف للفيلم، كما أن التمهيد في البنية الدرامية كانت بحاجة إلى تقنين، بحيث يتم إعطاء الأولوية للمشكلة الأساسية وهي الاحتلال.

أما في مشاهد بيت المونة الذي مرت أغلب الأحداث فيه، ورغم نجاح صانعة الفيلم في كسر جمود التصوير بمكان واحد وشخصية واحدة ووسط الظلام، إلا أن ذلك جاء أيضًا على حساب الفكرة الأساسية، فقد كانت الأولوية لتجسيد الصراع النفسي للطفلة فرحة، وتفاعلها مع البيئة القسرية، دون التطرق لدفاع الفلسطيني عن أرضه، ومجازر الاحتلال عند اقتحامه القرية، ما شكل ضعفًا في معالجة أزمة الفيلم.

اعتمد فيلم "فرحة" على السرد الذاتي الذي ينقل الأحداث من خلال وجهة نظر الشخصيات الحكائية ويقيد معرفة المشاهد بناءً عليها، وقد أضفى هذا التوظيف للسرد إبداعاً ومنحت قرباً من الشخصية الرئيسية، حيث أصبح المشاهد لا يرى إلا ما تراه عيون فرحة مما عزز من تقنية السرد الذاتي.

وظّفت صانعة فيلم "فرحة"، المؤلفة والمخرجة دارين سلام، عناصر اللغة السينمائية بطريقة مبررة ومقنعة تجعل المشاهد قريبًا أو بعيدًا من الأحداث كما تريد، وبما يتناسب مع الحالة الشعورية لبطلة الفيلم "كرم طاهر" - فرحة في بيت المونة، وعلاقتها بالمكان. ففي البداية وظفت اللقطات القريبة لإظهار الحالة الشعورية لفرحة، وكذلك اللقطات المتوسطة والطويلة لعرض علاقة فرحة بالمكان المغلق، واللقطات الطويلة لإظهار تفاعلها مع الخارج. أي أن صانعة الفيلم حافظت على واقعية المشاهد باعتماد اللقطات الطويلة خارج بيت المونة، واللقطات القريبة والمتوسطة للشخصية في الداخل، وتنقل المونتاج بينها من خلال حركة الممثلة.

كما عمل توظيف المكياج للشخصية الرئيسية فرحة، وطريقة تحوله تدريجيًا مع مرور الأيام عليها وهي أسيرة في بيت المونة إلى لحظة تحررها اختلافًا كبيرًا عبَّر عن مأساتها. وفي اختلاف الألوان بين الخارج، حيث الألوان الدافئة التي تعكس الحياة، والألوان الباردة والقاتمة في الداخل، برزت لوحة تعبيرية متوافقة مع الحالة الشعورية وعززت تكوين المشاهد الطويلة لبيت المونة.

تبنّت دارين سلام في فيلم "فرحة" مقولة "الصمت أبلغ من الكلام" من خلال توظيفها للإشارات التعبيرية لإخبارنا بما تريده الطفلة فرحة، مثل أشعَّة الشمس، والمطر، والكتاب، والرسومات، حيث ظهرت يد فرحة وهي تتراقص تحت أشعة الضوء في لقطة قريبة، وتساقط المطر ما روى عطشها روحها أيضًا.

ووظفت دارين سلام، ينبوع الماء للدلالة على تجدد الأجيال الفلسطينية، وسرقة المجندة لمفتاح عائلة أم محمد قبل قتلها برفقة أطفالها، دلالة على سلب الاحتلال أرض الفلسطيني وبيته وحقه في التواجد  داخل وطنه، وقتل الأجيال الفلسطينية منذ ولادتها. كما حملت الدلالات جانبًا أعمق من هذا، فالطفلة فرحة تمثل كل الأجيال الفلسطينية المهجرة، بينما شكل مشهد بلوغها دلالة على البلوغ القسري من طفولتها المسلوبة منها، أما احتلال قريتها فكان تعبيرًا عن احتلال فلسطين.

لقد أحسن فيلم "فرحة" تجسيد جزءٍ من مأساة النكبة الفلسطينية، وشكل الطابع العام وتوظيف الإيحاءات، وأداء الممثلين المتقن، إضافة لتركيب المؤثرات الصوتية عملاً متكاملاً استحقَّ الوصول إلى العالمية،  لكنه احتوى على بعض العناصر والحوارات البعيدة عن مشكلة الفيلم، ما أضعف العمل بشكل عام،  مثل ظهور شخصية الجاسوس، الذي منح معنى ضمنيًا أن المليشيات الصهيونية لم تقتل سوى عائلة "أبو محمد" من خلال رد فعله لحظة إطلاق النار عليهم، الأمر الذي يخالف الروايات المتناقلة بيننا عن المجازر، وكذلك شهادات مرتكبي هذه المجازر أنفسهم في الوثائقيات والمقابلات المصورة، ما يعني أن ظهور عنصر الجاسوس في الفيلم غير مبرر، وكان من الأفضل عدم تضمنيه لانعدام تأثيره على البنية الدرامية.

لقد أحسن فيلم "فرحة" تجسيد جزءٍ من مأساة النكبة الفلسطينية، لكنه احتوى على بعض العناصر والحوارات البعيدة عن مشكلة الفيلم

كما أن مشاهد رفض مختار القرية للمقاومة، معللاً ذلك برغبته في الحفاظ على أرواح الأهالي، في حين أن هذه الأرواح مهددة بالأساس من المحتل الذي سيطر على القرى المجاورة، لم تحتوي على مبرر درامي، نظرًا للواقعية التي اعتمدت عليها المؤلف والمخرجة دارين في اختيار قصة العمل، وهذه تفرض عليها الاعتماد على الواقع في صنع المبررات الدرامية، فالمختار اختفى فجأة في ما يبدو أنها إشارة لموته، وتُرك فهم مصيره للمشاهد، ما يثير تساؤلاً عن سبب عدم ظهور مصيره كما ظهرت دعواته للمقاومين بشكل واضح في تجنب التصدي لمليشيات الاحتلال.

دلالات: