30-نوفمبر-2017

كيفما خطوت في البلدة القديمة بنابلس، ترى الجمال والفرح بمولد النبيّ محمد، فشوارع المدينة أبهى وأجمل في هذا اليوم، أمّا بيوتها من الداخل فلها رونق خاص.

كثيرة هي العوامل التي تجمّعت لتشكلّ كل هذا الجمال فامتزاج شيء من تراث فاطمي، وكثير من التصوّف امتد منذ الفترة الأيوبية مرورًا بالمملوكية حتى نهايات العهد العثماني، ومحبة لآل البيت كرّستها مؤسسة نقابة الأشراف في نابلس، هذا ممزوجًا ومتداخلًا، شكَّل للمدينة بهاءها وجمالها في يوم المولد النبوي الشريف.

 الاحتفاء بالمولد النبوي أعطى لنابلس ميزة عن مثيلاتها من المدن الفلسطينية حتى أصبحت مزارًا، علَّ زائريها يحظون بشيء من فرحها يحملونه معهم حين يغادرونها

تقول أم صخر "نجاة قصف" وهي من مواليد العام 1938، والتي تبلغ من العمر (79 عامًا)، مسترجعة، بهدوءٍ وتأنٍ، ذكريات طفولتها منذ أن كانت في سن السادسة، بأن المدينة كانت تستعدّ قبل يوم من المولد، في الحادي عشر من ربيع الأول، من خلال اجتماع الناس لتزيين البلدة القديمة، وكانت أبواب المحلات التجارية تتزين بورق ملون كان يربط ليصبح أساور وحبال أو قناديل، وكُنّا نزيّن الشوارع أيضًا بالأضواء، وكان الفرح يغمرنا ونحن نمشي بها. وكان لخان التجار، تضيف الحاجة نجاة، رونقٌ خاص؛ فكان أصحاب المحلات يزيّنونه بشكل كامل، ويفرشونه بالسجاد، ويضعون أمام محلاتهم الحلويات (الملبّس على لوز، وغيرها).

حلوى المولد في شوارع نابلس

حلوى المولد في شوارع نابلس

عندما كُنّا أطفالًا، تقول الحاجة "نجاة" كُنّا نرى عدة الشيخ "نظمي عوكل"، أحد أشهر صوفيي المدينة، تجوب شوارع البلدة القديمة بآلاتها الموسيقية النحاسية والطبول، أو ما يعرف في نابلس باسم "العدِّة"، وكانت تُحدث أجواء فرح، وسرور كبيرين، وكان الناس يتجمعون حولهم، ويمشون خلفهم فرحين بهذه الذكرى، وكُنّا طيلة تجوالنا مع فرقة الشيخ نظمي الصوفية "العدِّة" نأخذ من الحلويات، التي يضعها أصحاب المحلات ونضعها في جيوبنا، لنأكلها فيما بعد.

اقرأ/ي أيضًا: المولد النّبوي في الجزائر.. أعراس النّار

في داخل بيوتنا، تضيف الحاجة "نجاة" كنا نُعدّ الحلويات، وأذكر أن والدي كان يحضر الكنافة أو الكلاج وتجتمع العائلة احتفاءً بهذا اليوم، حتى من كان لديه عروس جديدة، أو فتاة في فترة الخطوبة كان يقوم بشراء هدية وتذهب النساء لزيارتها وفقدتها، وكانت المتزوجات يحضرن لزيارة أهاليهم.

كان الناس يتوافدون على المساجد لسماع قصة المولد النبوي الشريف، وكان الكثير منهم يقرأونه في بيوتهم مع أهاليهم وجيرانهم، هذه العادة في كثير من الأحيان تتجاوز ذكرى المولد لتكون تعبيرًا عن الفرح في أمور دنيوية؛ كنجاح في المدرسة، وغيرها.. تضيف الحاجة "نجاة".

الشيخ عبد الرحيم الحنبلي من عائلة معروفة بعلمها وتدينها، وهو إمام المسجد الحنبلي، أحد أقدم المساجد في البلدة القديمة، يقول حول التطورات التي طرأت على الاحتفال بالمولد إن مدينة نابلس كانت رائدة في الاحتفال بهذه الذكرى منذ القدم، وكان الملك حسين يأتي إلى نابلس ليحضر احتفال المولد في قاعة البلدية في الخمسينيات والستينيات، إضافة للاحتفالات الشعبية حيث كان الناس يزيّنون أمام محلاتهم، أو منازلهم ويقدمون الحلويات للمارة، ومازالت نابلس محافظة على هذا الموروث"، ولكن مع الأيام، يضيف الحنبلي، أخذ الاحتفال طابعًا رسميًا وأصبحت الدولة تحتفل فيه، وحددته يوم عطلة رسمية، ويجري احتفال عام في المدينة، يجتمع فيه الناس والعلماء والمفتي والقاضي الشرعي. وتخرج العدة وهي رايات لأهل التصوف مثل عدة الشيخ نظمي لتذكير الناس بذكرى المولد النبوي، يقول الحنبلي.

زاوية الشيخ نظمي الصوفية | تصوير: لارا كنعان
زاوية الشيخ نظمي الصوفية | تصوير: لارا كنعان
زاوية الشيخ نظمي الصوفية | تصوير: لارا كنعان
زاوية الشيخ نظمي الصوفية | تصوير: لارا كنعان
زاوية الشيخ نظمي الصوفية | تصوير: لارا كنعان
زينة المولد النبوي في شوارع البلدة القديمة

اقرأ/ي أيضًا: بالفيديو.. جولة استكشافية للصوفية في جنين

في الجهة الغربية من البلدة القديمة، تقع زاوية الشيخ نظمي عوكل، الصوفي الأكثر شهرة في المدينة، وهي ذات بناء قديم يعود أصلها لمسجد مملوكي قديم أعيد بناؤه كزاوية سنة 1016 للهجرة/1704 للميلاد، وكان الشيخ نظمي من أصحاب الطريقة الرفاعية، وكان لزاويته دور في إعطاء رونق جميل على احتفالات المدينة ومنها احتفال المولد النبوي الشريف، فـ "عدة الشيخ نظمي" كان الناس، ولا يزالون ينتظرونها لتقود احتفالاتهم، ومواسمهم الدينية.

وكانت نابلس قديمًا مكانًا لزيارة المتصوّفة، فزارها الصوفي المعروف الشيخ عبد الغني النابلسي ووثّق زيارته هذه في رحلته "الحضرة الأنسية في الرحلة القدسية" في السنة الأولى من القرن الثاني عشر الهجري، حيث انطلق من دمشق إلى فلسطين ونزل في نابلس تسعة أيام، وفي رحلته وصف مظاهر الحياة الصوفية في نابلس. حيث يذكر أنّه عقد مجلس ذكر صوفي حضره الصوفية كبارًا وصغارًا في الجامع الكبير بعد صلاة المغرب، وحصل منهم في تلك الليلة وجد كبير.

نساء متصوّفات من مدينة نابلس | عدسة: لارا كنعان
نساء متصوّفات من مدينة نابلس | عدسة: لارا كنعان

ويذكر المؤرخ إحسان النمر بأنّ طرق التصوف شاعت شيوعًا كبيرًا، لاسيما الطريقة الشاذلية حينما زار نابلس الشيخ عبد الغني النابلسي، ثم تغلبت الطريقة الخلوتية الرفاعية بنزول السيد مصطفى البكري في نابلس، وقد وُجدت في المدينة زوايا لجميع الطرق تقريبًا وهي الرفاعية والقادرية والدسوقية والبدوية والشاذلية، وقد بلغت نحو عشرين زاوية.

وحول نشاطات الطرق الصوفية في نابلس يخبرنا الشيخ سعد شرف عضو المجلس الصوفي الأعلى والإمام والخطيب في مساجد المدينة أنّ النشاطات الصوفية في نابلس هي نشاطات دعوية، تخص أبناء الطرق الصوفية ابتداءً، والجمهور عمومًا من خلال دروس دينية، ومواقع وصفحات دينية على "الفيس بوك" وإحياء المناسبات الدينية ودعوة عموم الناس لها.

اقرأ/ي أيضًا: المولد النبوي في تونس.. احتفالات وطقوس

عند الاحتفالات بالمناسبات الدينية، يضيف شرف، يكون النشاط موحدًا. فالصوفيون جزء من النسيج الوطني الفلسطيني والصوفية انخرطت في النضال الفلسطيني بجميع أطيافه، ولسنا في صدام مع أحد لأننا جزء من الحركة الوطنية الفلسطينية، ولأفراد الطرق الصوفية جهد وطني وديني معروف وظاهر، مؤكدًا بأن الصوفيين ليس لديهم نشاط سياسي باسم التصوّف، فنحن لسنا حزبًا، يؤكد شرف.

والمجلس الصوفي الأعلى في بيت المقدس والديار الفلسطينية، والذي يمثله شرف في مدينة نابلس إضافة لعدد من مشايخ الطرق، تأسس وفق قول عبد الكريم نجم أحد أهم مسؤوليه في العام 1995 لأول مرة، وترأسه في ذلك الوقت الشيخ محمد سعيد الجمل، وكان عدد الأعضاء 13 عضوًا بمن فيهم رئيس المجلس.

وسبب تأسيس المجلس الصوفي الأعلى، يقول نجم لـ "الترا فلسطين"، العمل على إنهاء حالة التشتت التي تعيشها طرق التصوّف الـ14 في فلسطين. فخصوصية الحالة الفلسطينية، وفق نجم، تتطلب من المجلس الصوفي أن يكون له دور في اتجاهين داخلي وخارجي، الداخلي من أهم أولوياته تنظيم العلاقة ما بين الطرق الصوفية بشكل مركزي من خلال مشايخها، وتعميم فكرة التلاقي ما بين الطرق الصوفية وتقبل بعضها من خلال الحضور في الاحتفالات الدينية والموالد وحلقات الذك، وثالثًا العمل بشكل جماعي على إعادة نشر فكر المحبة والاخاء والمساواة وقبول الآخر ونبذ التشدد ورفض وتكفير الآخر، أما الهدف الخارجي هو البدء في محاولة استجلاب دعم من الطرق الصوفية العالمية باتجاه نصرة القضية الفلسطينية ونصرة القدس.

ولا يعبأ الناس كثيرًا في المدينة بمعرفة الخلاف حول المجلس الصوفي وتفاصيله، لكنّ المهم عندهم أنّ يوم المولد هو يوم الفرح الذي تقودهم إليه "عدّة الشيخ نظمي" في طرقات المدينة وأسواقها، ليلتقطوا شيئًا من الحلويات، حاملين ما يكفيهم من فرح وسرور حتى العام القادم في يوم الذكرى ليعودوا من جديد في دورة دائمة من الفرح.


اقرأ/ي أيضًا:

التقشف يعيد لقناديل المولد اليدوية ضوءها في الجزائر

حلوى المولد النبوي في مصر.. "خليها ذكرى"

المولد النبويّ في الأردن: موسم الخلافات والتكفير