وجد الفنان التشكيلي الفلسطيني أحمد مهنا في أغلفة طرود المساعدات الإغاثية الإنسانية بديلاً طارئًا عن الورق المفقود في أسواق ومكتبات قطاع غزة، من أجل "الرسم التوثيقي" الذي يعكس يوميات الغزيين والنازحين المؤلمة في ظل حرب إسرائيلية ضارية انقضت منها 10 شهور دامية ومدمرة.
الفنان التشكيلي أحمد مهنا لـ"الترا فلسطين": لا أعتقد أن هناك أيّ فنان آخر في هذا العالم يرسم على ورق طرود كرتونيّة فارغة من المساعدات الإغاثيّة
"الفنان ابن بيئته" يقول مهنا، وهو فنان في العقد الرابع من عمره، يقيم مع زوجته وأطفاله في مدينة دير البلح وسط القطاع، وهي الأكثر اكتظاظًا بالنازحين، ورغم أنه لم يخض تجربة النزوح، إلا أنه يعيش ويلاتها يوميًا، وهو يشاهد معاناة النازحين فيما يشبه "صراع البقاء"، من أجل توفير أبسط مقومات الحياة اليومية.
كان لتجربة النزوح المريرة والحياة البائسة التي فرضتها الحرب على زهاء مليونيّ فلسطينيّ، حيزًا كبيرًا من رسومات مهنا، فرسم الكثير من اللوحات التي توثق عدة جوانب من صراعهم اليومي لتوفير الطعام والماء، والأزمات المركبة التي تعصف بهم جراء شح الوقود والأدوية وإغلاق المعابر.
من وحي الحرب
تولدت فكرة استخدام أغلفة المساعدات الإغاثية (الكرتون المقوى) لدى الفنان مهنا، من الحاجة إلى الورق من أجل الرسم، وهي إحدى أزمات كثيرة ناجمة عن الحرب الإسرائيلية المستعرة والحصار الخانق وإغلاق المعابر، حيث نفد الورق بأنواعه من غالبية المكتبات والمحال المتخصصة.
وانعكست أزمة شحّ الورق في الأسواق على مناحي حياتية عدة، ومنها المرافق الصحيّة، وبحسب مصادر طبية في "مجمع ناصر الطبي" الأكبر في جنوب القطاع، فإن الطواقم تواجه صعوبة في أداء مهامها اليومية؛ بسبب عدم توفر الورق للمعاملات الداخلية والخارجية.
وكان لهذه الأزمة انعكاسها على الفنان مهنا، ويقول لـ "الترا فلسطين"، إن "الفلسطيني لا يعدم الوسيلة، وعندما عانيت من أجل توفير أي ورق للرسم، وأقصد الورق كله، وليس فقط المخصص للرسم، وجدت ضالتي في الكرتون المقوى الذي تصنع منه طرود المساعدات الإنسانية الإغاثية".
يجمع هذا الفنان كرتون طرود المساعدات الفارغة، ويقصه إلى أشكال مربعة أو مستطيلة بحسب شكل الرسم الذي يختزن في عقله وفكره، ومن ثم يسكب الفكرة حبرًا، حتى تكتمل وتعكس ما أراده من رسائل كثيرة، وبرأيه فإنه يحاول من خلال الرسم تفريغ ما يحمله في وجدانه من مشاهد ومشاعر، على شكل لوحات فنية تجسد هموم شعبه، وتوثق ما يعانيه تحت نيّر الاحتلال ونيران الحرب ومآسي الحصار والعزلة.
لوحات برسم الدم والدمار
قبل اندلاع الحرب الإسرائيلية على القطاع؛ كان مهنا خريج كلية الفنون الجميلة في جامعة الأقصى بمدينة غزة، يعمل في مؤسسة عبد المحسن القطان كمنشط فنون للأطفال ومختص في العلاج النفسي والانفعالي من خلال الفنون، ويصف حياته بأنها كانت تسير بشكل طبيعي، متزوج وأب لأطفال، ويعيش حياة مستقرة، غير أن "الحرب قلبت غزة كلها رأسًا على عقب، وألقت بها في جحيم الدم والدمار".
توقفت مناحي الحياة كلها في غزة، ولم يعد مهنا إلى عمله، الذي كان يشغل المساحة الأكبر من وقته، ولم يكن ينتج لوحات فنية من حيث الكمّ أو نوعية العناوين مثلما يفعل حاليًا في ظل الحرب، ويرجع السبب في ذلك إلى "التغذية البصرية التي نتجت بسبب المشاهدة اليومية العينية لتداعيات الحرب، أو التي أراها عبر شاشات التلفزة، أو على صفحات ومنصات التواصل الاجتماعي".
وتعكس لوحات مهنا أثر روتين النازحين اليومي عليه ومدى تأثره بمعاناتهم اليومية، فخصص لهم الكثير من اللوحات التي تصور حياتهم في الخيام ومراكز النزوح، وكيف يبدأون أيام الحرب من الصباح الباكر بحثًا عن مقومات الحياة.
وتتقاسم هذه اللوحات البؤس في الوجوه المتعبة من الوقوف طويلًا في صفوف أمام التكايا التي توزع الطعام المجاني، وسيارات تعبئة المياه العذبة للشرب، أو لتعبئة المياه المالحة التي تستخدم للنظافة والاستخدامات المنزلية الأخرى.
وكان للأطفال والنساء حيزًا كبيرًا من هذه اللوحات، فهذا طفل مكلوم على فقدان أسرته، وذلك آخر أرهق التعب جسده الصغير لمساعدة أسرته في تدبير شؤونها اليومية، وهذه امرأة يعتصرها القهر والتعب أمام نيران الفرن في ظل أزمة شح غاز الطهي، وتلك أخرى يكاد قلبها ينفطر حزنًا على فراق أحبتها، ونماذج أخرى كثيرة يجمعها القهر والحزن وألم الفراق.
وعلى قدر هذه الهموم، فإن مهنا كان حريصًا على إظهار الأمل في عيون الغزيين، بما يعكس قدرتهم على المواجهة والصراع من أجل البقاء وحقهم في الحياة بكرامة وحرية وبدون احتلال.
رسائل من وجع
لا ينظر مهنا إلى ما يقوم به كفنان فلسطيني صاحب قضية على أنها مجرد لوحات صمّاء، ويقول هي "فلسفة فنيّة، فلا أعتقد أن هناك أيّ فنان آخر في هذا العالم يرسم على ورق طرود كرتونيّة فارغة من المساعدات الإغاثيّة، ويرسم تحت القصف، وأنا نفسي قد أكون ضحية هذا القصف".
وحتى هذه الطرود الفارغة تبدو شحيحة في غزة، وبدأت تتلاشى أيضًا مثل الورق، في ظلّ استمرار احتلال معبر رفح مع مصر منذ أيّار/مايو الماضي، ومنع الاحتلال تدفق المساعدات المكدسة في الجانب المصريّ من المعبر للشهر الرابع على التوالي.
ويكابد مهنا من أجلّ إنجاز لوحاته الفنيّة في ظلّ واقع مرير يفرض عليه كربّ أسرة بذل الجهد اليومي الذي يستنزف وقته من أجلّ توفير احتياجات أسرته الأساسية، وهي مهمّة يصفها بالمعقدة والصعبة، جرّاء شحّ السلع والبضائع والارتفاع الجنوني على الأسعار في الأسواق، نتيجة العزلة والحصار.
قبل اندلاع الحرب، كانت لوحات مهنا تحمل عناوين تتحدث عن الثقافة والفكر وتطوير الذات والأمل في غدٍ أفضل، أما في ظلّ هذه الحرب المجنونة، وفقًا له، فإن الوجع يقطر من قلم الفحم الذي يستخدمه لتجسد فكرته على قطعة من كرتون طرد إغاثي لشعب تمارس ضده حرب إبادة وتجويع وتعطيش.
"هذا العالم صمّ آذانه عن صرخات أطفالنا، ولا أعتقد أن ضميره قد يتحرك من لوحة فنية مهما كانت مبدعة"، يقول مهنا، لكنه في الوقت ذاته يؤمن بقيمة ما يرسم من أجل المستقبل، وتوثيق الجرائم المروعة التي ترتكب بحق الغزيين.