08-مايو-2024
مقابر مدارس مخيم البريج

الطفلة كنزة بجوار قبر والدها. تصوير: محمد النعامي | الترا فلسطين

بجوار خيمتها وداخل مدرستها، دُفن والد الطفلة كنزة أبو حسين، في مخيم البريج، وسط قطاع غزة، الذي أصبح شهيدًا خلال القصف العشوائي السابق للاجتياح البري للمخيم، مطلع كانون الثاني\يناير الماضي.

 شهدت الطفلة مواراة والدها الثرى قبل نزوحها إلى رفح، وبعد العودة للمخيم، اختارت وأخوتها أن تكون خيمتهم بجواره.

لم يجد النازحون سبيلًا إلا في المدارس لدفن الشهداء بشكل فوري، وليس في المقابر، كون الاحتلال يستهدف كل ما يتحرك في الطرقات

شكّلت المدارس، بعد تحولها لمراكز إيواء مع بداية الحرب، هدفًا سهلًا ودسمًا لجيش الاحتلال الإسرائيلي، واستهدفتها طائراته ومدفعيته بشكل منهجي؛ الذي خلّف أعدادًا كبيرة من الشهداء والجرحى.

ورأى الاحتلال في هذه المدارس فرصة للاستعراض العسكريّ، واقتحم المدارس ونفّذ عمليات قتل وتعذيب وتحقيق واغتصاب، وأخذ أعدادًا كبيرة من الرجال والنساء كأسرى ودروع بشرية، حسب شهادات الناجين. 

ومع هذه الإعدامات وعمليات القتل، لم يجد النازحون سبيلًا إلا في المدارس لدفن الشهداء بشكل فوري، وليس في المقابر، كون الاحتلال يستهدف كل ما يتحرك في طرقات المخيم. 

قبور الشهداء في المدارس
قبور الشهداء في المدارس

لحظات تحبس الأنفاس 

يروي الناجي أبو إسحاق مهادي، الذي كان نازحًا في مدرسة (أبو هميسة)، تفاصيل ما حصل في تلك الليلة، قائلًا: " كنا في خيامنا في باحة المدرسة، وتواصل القصف المدفعي، ولكنه اشتد فجأة بشكل كبير، وبدأت أحزمة نارية في العديد من الطرقات، وحلّقت أسراب من طائرات الكواد كابتر بشكل منخفض".

ويروي في حديث لـ "الترا فلسطين" أن الشظايا دخلت الخيام، واستشهد العديد، واستهدفت طائرات الكواد كابتر أشخاصًا داخل المدرسة، وكان هناك شهداء في محيط المدرسة وفي الخيام، مضيفًا: "دخلنا جميعًا إلى داخل مبنى المدرسة، واستمر الوضع على الحالة طيلة الليل، وعندما خرجنا رأينا مشهدًا مرعبًا للشهداء وأشلائهم تملأ المكان".

أسماء الشهداء
أسماء الشهداء في مقابر المدارس | محمد النعامي - الترا فلسطين 

وأوضح أبو إسحاق أن هناك عائلات بأكملها استشهدت وهي في طريقها للاحتماء بالمدرسة، ومع دخول الآليات وبدء الاشتباكات مع المقاومة الفلسطينية لم يستطع أحد الوصول إليهم. 

وتابع: "كان علينا إيجاد حل لجثامين الشهداء التي داخل المدرسة، بعض الأهالي احتفظوا بجثامين أبنائهم وعندما سُنحت الفرصة دفنوهم في أماكن قريبة، وقمنا بدفن باقي الشهداء داخل المدرسة، خلف "كونتينر" الإدارة، لأن الخروج للشارع خطير للغاية، وهناك من خرج لانتشال شهداء من أمام المدرسة، وتعرض للقنص واستشهد".

وقام النازحون في المدرسة بلف جثامين الشهداء بالنايلون قبل دفنهم، ليتمكن ذووهم من إعادة دفنهم في المقابر بعد انتهاء الحرب، كما دفنوا شهداء مجهولي الهوية، لا يعلم أحد من همّ، كما دفنوا أشلاء متناثرة في حفر متجاورة بجانب القبور.

مقابر المدارس
مقابر المدارس | محمد النعامي - الترا فلسطين

مقابر المدارس 

يعود قبر من بين هذه القبور إلى والد الطفلة كنزة أبو حسين، 8 أعوام، ولموقع دفنه مكانة خاصة في نفسها، حيث دُفن في مدرستها، التي من المفترض أن تدرس فيها لـ3 أعوام قادمة.

تأثرت كنزة كثيرًا باستشهاد والدها، وباتت تقضي ساعات عدة من يومها بجانب قبره، وكذلك في مساعدة والدتها للعناية بإخوتها الصغار.

وقالت الطفلة كنزة إن استشهاد والدها أحزنها كثيرًا، وأحزن كل العائلة، فقد كان حنونًا ومصدر السعادة في الأسرة، لهذا تشعر بارتياح عندما تكون بجواره.

وأضافت في حديث لـ الترا فلسطين ": "لم أتخيل أن المكان الذي ألعب فيه مع صديقاتي في المدرسة سيكون قبرًا لوالدي، كنت أحب مدرستي كثيرًا وعندما كنت أنسى شيئًا من أغراضي المدرسية في المنزل، كان والدي يأتي ويحضرها لي، ولطالما أفرحتني رؤيته". 

أما والدة الطفلة كنزة، أم أحمد حسين، فقالت إن أطفالها تأثروا جدًا بفقدان والدهم، وكان دفنه بالقرب منهم يذكرهم باستشهاده، ويبدو أثر الحزن عليهم باستمرار، ولكن من جانب آخر يؤنسهم وجوده قربهم، وكأنه لا يزال حيًا بينهم وسندًا لهم.

أصبحت المدارس مقابر للشهداء
أصبحت المدارس مقابر الشهداء | محمد النعامي - الترا فلسطين 

وأضافت أم أحمد في حديث لـ الترا فلسطين ": "ينتظرنا الكثير من الألم بفقدان زوجي، لدينا مسؤوليات كبيرة، وفقدنا منزلنا، والأطفال في بداية عمرهم وطريقهم، ويحتاجون لوجود والدهم، بينهم يلبي احتياجاتهم، ويوفر لهم الحياة الكريمة التي كان دائمًا يسعى لتوفيرها، قبل أن تقتله طائرات الاحتلال" . 

وغير بعيد عن مدرسة أبو هميسة، تقع مدرسة الحلو، التي تضم داخلها مقبرة أخرى، شرق مخيم البريج، وحدثت فيها جرائم دموية على يد جنود الاحتلال، عقب اقتحامهم للمدرسة، الذي خلّف عددًا من الشهداء، فقام أهل المنطقة بدفن جثامينهم داخل المدرسة.

وخلال اجتياح مخيم المغازي بالتزامن مع اجتياح البريج تكرر دفن الشهداء داخل المدارس، وشهدت مدرسة المغازي الإعدادية للبنات، دفن عدد كبير من الشهداء، أغلبهم من النازحين. 

ومن جانبه، قال أبو أحمد القطْري، نازح داخل المدرسة، إنه مع بداية الاجتياح البري، بدأ قصف مدفعي عشوائي وعنيف تجاه المخيم، وارتقى عدد كبير من الشهداء داخل المدرسة، ومعظمهم من نازحي شمال القطاع ومدينة غزة، "كنا نتحيّن الفرصة عندما يهدأ القصف قليلًا وندفن جثامينهم".

باتت الكثير من المدارس في قطاع غزة تحوي داخلها مقابر شهداء ارتقوا داخلها، ولم يستطع أحد دفنهم إلا في ترابها

وأضاف في حديث لـ "الترا فلسطين": "لم يكن هناك وقت للوداع والبكاء والحزن، كنا نسابق الزمن لدفنهم بسرعة، وكثير منهم لم نعلم هويتهم، وعندما نسمع صوت صاروخ ينطلق من الطائرات، نفزع ونحاول الابتعاد، وعندما ندرك أنه ليس موجهًا ضدنا نعود للدفن، كانت لحظات صعبة جدًا ومخاطرة عالية، ولكن الدين يقول بوجوب دفن الشهيد وهذا أقل واجب". 

واستذكر أبو أحمد استشهاد اثنين من جيرانه، عوني أبو مسلم ومحمود الطلاع، عندما استهدفتهم طائرات الاحتلال أثناء دفنهما أشلاء شهداء. 

وباتت الكثير من المدارس في قطاع غزة تحوي داخلها مقابر شهداء ارتقوا داخلها، ولم يستطع أحد دفنهم إلا في ترابها، ومع اكتظاظ المقابر المعروفة، أصبح شائعًا دفن الشهداء في أي مكان متاح، كالأراضي الزراعية، والطرقات، وأمام المساجد وحتى في باحات المنازل.