يعود بدك الزمن إلى الوراء قرابة 300 عام، أثناء تناولك لـ"منقوشة الزيت والزعتر" مع رشفة شاي بالنعناع، في مطعم الفلسطيني إسماعيل قاسم الأثري، الواقع في البلدة القديمة وسط مدينة غزة.
تعدى مطعم "أبو زهير" كونه مطعمًا لتناول المناقيش والفطائر بأنواعه، إلى أن أصبح معلمًا سياحيًا يقصده الكثير من الزوار القادمين إلى قطاع غزة من مختلف الجنسيات
نجح قاسم في تحويل منزل مهجور مطل على المسجد العمري، أقدم وأكبر مساجد مدينة غزة والذي يقدّر عمره بـ 800 عام، إلى مطعم شعبي يقصده المئات من سكان القطاع يوميًا.
وتبدأ رحلتك في استكشاف مطعم "أبو زهير" الأثري عبر ولوجك لبوابته الصغيرة التي لا يتعدى عرضها 90 سم، ومن ثم تصعد بضع درجات مكسوة بالرخام القديم، لتنبهر بعد ذلك بجمال المكان الذي يشير كل شيء فيه إلى الماضي الجميل؛ بلاط قديم مزركش وحوائط من الحجارة القديمة، تعلوها أقواس من الحجارة الرميلة، ونوافذ داخل الجدران معروض بداخلها قطع أثرية، ونوافذ أخرى في الأعلى تتسلل عبرها أشعة الشمس الذهبية.
وتعدى مطعم "أبو زهير" كونه مطعمًا لتناول المناقيش والفطائر بأنواعه، إلى أن أصبح معلمًا سياحيًا يقصده الكثير من الزوار القادمين إلى قطاع غزة من مختلف الجنسيات، والذين يحرصون على تناول وجبات الإفطار في ردهاته، ثم التجول في الأزقة المحيطة به لاستكشاف المباني القديمة.
يقول قاسم لـ "الترا فلسطين" إنه بدأ عمله منذ سنوات في بيع المعجنات والمناقيش على عربة صغيرة، إلا أن تطوّر عمله في افتتاح دكان صغير في البلدة القديمة، ثم افتتاح مطعمه الأثري داخل أحد المنازل الأثرية المهجورة.
ويشير قاسم إلى أنّ روّاد مطعمه أعجبهم مكان المطعم وجلساته البسيطة التي تذكّرهم بالماضي، كما يقولون، وبدأوا يتوافدون للمكان، على اختلاف أعمارهم لتناول المناقيش، والتقاط الصور التذكارية.
ويضيف: حرصت خلال إعادة ترميم المنزل على استحضار نماذج من التراث الفلسطيني، من خلال نشر أباريق شرب المياه المصنوعة من الفخار، ووضع قطع أثرية ومجسمات ولوحات لخريطة فلسطين والمسجد الأقصى في أرجاء المطعم.
فجأة قطع قاسم حديثنا، وانطلق مسرعًا ليتوسط مجموعة من الفتيات اللواتي حضرن لمطعمه وهن يرتدين الثوب التراثي الفلسطيني لالتقاط صورة تذكارية، وسط ترديده لعبارة الترحيب والثناء.
السيدة أم يزن الباز (55 عامًا) والمقيمة في السويد منذ عشر سنوات، وجدت في مطعم "أبو زهير" الأثري، أفضل مكان للاجتماع بأحفادها وأفراد عائلتها لتناول طعام الإفطار، خلال زيارتها لعائلتها في مدينة غزة.
وقالت الباز لـ "الترا فلسطين" وهي تتوسط أحفادها، كنت أتابع صفحة المطعم عبر حساب الانستغرام، وأنا في السويد، ومنذ وصولي إلى مدينة غزة قررت زيارته مباشرة.
وتضيف الباز أنّ تناول المناقيش في هذا المطعم له طعم خاص، فكل زاوية من زواياه تعيد حنينك إلى الوراء مئات السنين، مشيرةً إلى أنّ كل شعوب العالم تفتخر بتراثها، وهذه المباني الأثرية هي جزء من تراثنا و"من لا ماضي له لا حاضر له".
ونجح قاسم في إنعاش حركة زيارة شوارع البلدة القديمة بغزة والتعرف عليها، إذ بإمكانك مشاهدة العشرات من طلاب الرحلات والمواطنين من مختلف الأعمار يتجولون في تلك الطرقات، وفي سوق القيسارية الأثري المجاور وقصر الباشا، وذلك بعد انتهائهم من تناول طعام الإفطار.
الشاب محمد الجملة (26 عامًا)، وجد هو الآخر في مطعم أبو زهير مكانًا مميزًا لتناول إفطاره الصباحي، خاصة أنه شغوف بالتعرف على الآثار وزيارة المباني القديمة.
يقول محمد لـ "الترا فلسطين" إنه يشعر بسعادة كبيرة أثناء زيارته مطعم أبو زهير، ويتردد عليه بصورة مستمرة، مشيرًا إلى تميّز المكان بأجوائه الخاصة، كما أنّ أسعاره رمزية.
ويتابع: "أنا من الناس اللي بتحب كل شيء قديم وله علاقة بالماضي، وكنت أتمنى دراسة التاريخ والآثار، لكن ندرة فرص العمل في هذا المجال دفعتني لدراسة الحقوق".
ويحرص محمد في كل زيارة لمطعم أبو زهير على اصطحاب أحد أصدقائه ليعرفه على المكان، كما أنه لا يغادر ردهات المطعم فور انتهائه من تناول طعام الإفطار، بل يمضي بعض الوقت للاستمتاع بأجوائه، كما يقول.
قصة نجاح أبو زهير دفعت العديد من أصحاب الفنادق والمطاعم الفاخرة لتقديم عروض مغرية عليه، على حدّ قوله، إلا أنه رفضها جميعًا، معقّبًا بالقول: "أنا أبو الغلابا، وسأحافظ على هذا المكان حتى يتمكن جميع الناس من زيارته".