"ما في أكثر من الموت في غزة"، بكلمات قليلة يختصر الحانوتي طافش أبو حطب واقع الحال في قطاع غزة جرّاء الحرب الإسرائيلية، التي حصدت أرواح أكثر من 40 ألف فلسطيني، وزهاء 10 آلاف آخرين عالقين تحت أنقاض المنازل والمباني المدمرة، خلال عامها الأول الذي يوشك على الانقضاء في 7 تشرين الأول/أكتوبر المقبل.
ويعمل هذا الرجل الستيني في مهنة حفر القبور ودفن الموتى منذ 19 عامًا، ويشرف حاليًا على "المقبرة التركية" غرب مدينة خانيونس في جنوب القطاع، ويعتبر أبو حطب (65 عامًا) الحرب الحالية الفترة الأصعب عليه طوال العقدين الماضيين من عمله في هذه المهنة.
يلجأ الحفارون في قطاع غزة إلى ركام المنازل المدمرة لبناء قبور في ظل الحرب والحصار وتوقف مصانع الحجارة
ولا تمرّ ساعة من دون أن يُفتح بها قبر جديد في هذه المقبرة التي أُنشئت قبل نحو سبعة أعوام، وتوشك على الامتلاء وقد اندلعت الحرب في تشرين الأول/أكتوبر الماضي وبها 60 قبرًا فقط، فيما اليوم تضم أكثر من 6 آلاف قبر، ويقول أبو حطب لـ "الترا فلسطين": "هذه حرب مجنونة لا تفرّق بين صغير وكبير ورجل وامرأة.. لقد شاركت في دفن حوالي 7 آلاف شهيد، من بينهم نساء وأطفال، ومواليد ورضع، وعائلات بأكملها تحولت لأشلاء ومُسحت من السجل المدني".
قبور من أنقاض المنازل
ويعمل أبو حطب في حفر القبور كمهنة يعتاش منها مع عدد من أبنائه والعاملين معه، ويقول إن الحرب تسببت في رفع كلفة حفر القبور وتجهيزها، فقبل اندلاع الحرب كان القبر يكلف 280 شيكل، ويتقاضى أبو حطب ثمنه من ذوي المتوفى بهامش ربح يتراوح بين 50 إلى 100 شيكل، لكن في هذه الأثناء وبفعل الحرب الضارية والحصار الخانق ومع إغلاق المعابر وتوقف مصانع طوب البناء، وشح مادة الأسمنت، ارتفعت تكاليف بناء القبر إلى 450 شيكل.
وإزاء هذا الواقع، وفي ظلّ توقف مصانع الطوب لجأ أبو حطب وغيره من حفاري القبور في القطاع إلى ركام المنازل والمباني المدمرة، ويقول إنه يشتري من عمال على عربات تجرها الحيوانات ما يجمعوه من حجارة صالحة لإعادة التدوير، ويقوم بتنظيفها وتهيئتها واستخدامها كجدر استنادية للقبور، وبكلفة مادية أكبر مما كانت تكلفه الحجارة الجديدة التي كان يستخدمها قبل الحرب.
وكان حجر المصنع الجديد يباع قبل الحرب بنحو شيكل ونصف الشيكل، فيما يضطر أبو حطب حاليًا لشراء الحجر الواحد من مخلّفات القصف والغارات الجوية الإسرائيلية بأربعة شواكل، وارتفع سعر طنّ الأسمنت من 400 شيكل إلى 5 آلاف شيكل.
"الناس مكلومة ومنهم كثيرون لا يملكون ثمن القبر،" ولا يعلمون هذه التكاليف، ويحملون "الحانوتي" المسؤولية، الذي يرد قائلًا: "طيب أنا شو أعمل؟". وتتحمل بلديات وهيئات خيرية وأشخاص مبادرين في عدد من مقابر القطاع تكاليف القبور الخاصة بدفن الشهداء، والأموات من الطبقات الفقيرة والمحتاجة عمومًا.
مشاهد قاسية
ويقدر أبو حطب أنه حفر قبورًا وشارك في دفن أكثر من 7 آلاف شهيد منذ اندلاع الحرب، وكانت أصعب أيامها عليه استشهاد 137 فلسطيني بينهم عشرات من أفراد عائلته نازحين من مدينة غزة إلى مدينة خانيونس.
وخلال شهور الحرب فقد هذا الرجل من عشيرته وتعرف بـ "السطرية" أكثر من 120 شهيدًا، ومن بينهم نجله وشقيقه، ويقول إن هذا العدد يعادل أموات العشيرة على مدار 10 إلى 15 عامًا في الأوقات الطبيعية.
ومنذ 10 أعوام يعمل طارق (28 عامًا) مع والده طافش أبو حطب في هذه المهنة، ويقول هذا الشاب العشريني لـ "الترا فلسطين": إنه لم يتخيل يومًا أن يحفر قبورًا بهذا العدد في اليوم الواحد، فيما قبل الحرب كان يحفر ما لا يزيد عن 10 قبور في الشهر.
ويقدّر طارق أن المقبرة التي يعمل بها منذ افتتاحها قبل سبعة أعوام توشك على الامتلاء تمامًا، وفي سبيل مواكبة الأعداد الهائلة من الشهداء يوميًا لجأ هذا الشاب وأبيه إلى أسلوب حفر القبور بشكل متلاصق إلى جانب بعضها البعض من دون مساحات بينية، وهو أمر غير معتاد في مقابر غزة.
وعايش "الحانوتي طارق" أحداثًا قاسية وتختزن ذاكرته الكثير من أهوال الحرب، ويذكر بتأثر كبير أن رجلًا جاءه حاملًا ثلاثة أكياس من الأشلاء ليدفنها قال إنها لطفله (9 أعوام)، استهدفته مسيّرة إسرائيلية بصاروخ أصابه مباشرة ومزق جسده.
ومن أكثر أيام الحرب دموية على هذا الشاب وأبيه، حسبما اتفقا، كانت "مجزرة المواصي" التي ادعت فيها قوات الاحتلال استهداف القائد العام لكتائب عز الدين القسّام محمد الضيف وقائد لواء خانيونس رافع سلامة، واستشهد خلالها عشرات المدنيين.
يقول طارق: "نجهز يوميًا حوالي 30 قبرًا، وفي يوم وقوع المجزرة لم تكف هذه القبور لأعداد الشهداء الذين وصلوا المقبرة، وبينهم رجال ونساء وأطفال، حولت صواريخ الاحتلال أجسادهم إلى أشلاء وضعت في أكياس لدفنها".
أرقام وحقائق مؤلمة
وعلاوة على مواكب الشهداء التي لا تتوقف نتيجة الجرائم والمجازر الإسرائيلية، فإن ارتفاع أعداد الوفيات الطبيعية إلى 6 أضعاف ونصف الضعف عما كانت عليه قبل الحرب، يعمق من أزمة القبور والمقابر في القطاع، بحسب حديث مدير عام المكتب الإعلامي الحكومي إسماعيل الثوابتة لـ "الترا فلسطين"، وقال إن ذلك كله نتيجة تداعيات الحرب والحصار الخانق وانهيار المنظومة الصحية وتفشي الأمراض والأوبئة.
وأوضح أنه مع استهداف الاحتلال لنحو 60 مقبرة بهدمها وتجريفها، ونبش أكثر من 1500 قبر، وتعذر وصول المواطنين لمقابر في مناطق خطرة قريبة من السياج الأمني الإسرائيلي وأماكن توغل الاحتلال، كان اللجوء إلى خيارات بديلة مؤلمة كالدفن الجماعي، وبناء قبور متلاصقة باستخدام حجارة ومخلفات من المنازل والمباني المدمرة.
وقد فرضت حرب الإبادة الجماعية على سكان غزة خيارات قاسية كثيرة ومنها الدفن في قبور عشوائية في الشوارع وساحات المدارس والمستشفيات، وفق تأكيد الثوابتة.