17-يوليو-2024
ماذا يعني أن تمرض في غزة؟!

على جدار مدرسة للأونروا في النصيرات وسط قطاع غزة، بعد أن قصفها الجيش الإسرائيلي

أن تمرض في غزة، يعني أن تركب على ظهر الموت ليسير بك ببطء وأنت تختزن المياه في سنا صبرك ابتغاء الإحياء، تمامًا كما كنت أفعل يقينًا بآية اقتران الماء بالحياة طوال فترة إصابتي بالتهاب الكبد الوبائي وكأني عائدة من الموت.

كنتُ استخفُ ألمي أمام جراح الناس، استهزئ بعافيتي المتهالكة وأضحك على نفسي كيف أُزاحم من تنزف روحه قبل قدمه، ومن كُسر سنده قبل ذراعه، ومن بُترت عافيته وذاكرته وعائلته قبل أن تُبتر يده

لقد فتك بعضلاتي، سلب مني توازني حتى قلّص حركتي على الفريضة والحاجة، غشيَ عيوني بلونٍ أصفر اقتبس بهاتته من ملامحنا وحالة الروح، كما سلّط الألم على طرفي الذي كان غباش الرؤية يزوره بين الحين والآخر. أمّا عن معدتي فقد كانت تلفظُ كل ما أحاول إدخاله لها ولو بالإجبار ابتغاء التقوّي تمامًا كما يلفظ عقلي فكرة استساغة السّم الإجباري المغلف بالاختيار على هيئة "معلبات"، لقد انتزع المرض شهيّتي وأنا التي كنت أقضي ساعاتٍ حول النار أحاول فيها التفنن في إعداد الطعام لأهل بيتي علّهم يتجرعون المتوفر، وعلّي أنجح في منحهم شعورًا مختلف النكهة في تذوّق الطعام ذاته يوميًا بالابتعاد عن طريقة الطهي الروتينية.

خسرت قرابة 10 كيلوغرام من وزني، فوق ما فقدت خلال اشتداد المجاعة في الأشهر الأولى للعدوان، وما ضاعف أعراض المرض حتى تمكّن من كامل عافيتي هو مقاطعتي للموجود الوحيد، أرفض غمس خبز أمي "بسم المعلبات"، وفي ظل غياب البدائل وحاجتي لكل قيمةٍ غذائية فيما أتناول، فاقمت المجاعة من حالتي حتى ظللتُ طريحة الفراش مدةً تجاوزت الـ 20 يومًا وأنا أحاول أن أكون على قيد الصحة.

أصلّي وأنا جالسة ولا يصدر منّي سوى الأنين، ضربات خاصرتي شلّت حركتي كما شلّ العدوان شعائر الحياة بغزة، أتنقّل بثقلٍ غريب لكنه لا يوازي تلك الصخرة السوداء التي تقبض بالقهر على صدور الغزيين، وفوق الألم غاب الدواء كما المكمّلات الغذائية التي قصدتها وإن لم أفعل من قبل ابتغاء رفع مناعتي التي انهارت أمام الفايروس الذي انتعش في بقعةٍ غارقة في التلوث والكوارث حتى أصاب أغلب أهل المدينة الذين اجتمع عليهم تلوث الهواء بكل أنواع الغازات السامة والكيماويات التي لم يسبق للعالم استنشاقها، كما تسلل عبر المياه منزوعة النظافة حين اضطر سكان الشمال تناولها تنازلًا للعطش في وقت غابت فيه كل مصادر الطاقة عن محطات التحلية، وهروبًا من الهلاك حين دمّر الاحتلال معظم الآبار تحت ناري الشمس والصاروخ.

أمّا عن الطرقات، فوحدها رائحة النفايات المكدسة تخبركَ بكارثية التراكمات لأطنان من القمامة بلا مصارف، تتراقص فوقها الحشرات المتنقلة بين الناس، فتحمل معها ما تحمل من العدوى والكائنات المُسببة للمرض. وعن المفترقات التي ما عادت تشبه شكلها سوى أنها شاهدة على الفرق بين الحق والباطل فقد شهدت تدمير الأخير للمصارف الصحية حتى باتت مياه المجاري عبارة عن ممراتٍ مائية بين السبل.

حقيقيةً؛ كنت استخفُ ألمي أمام جراح الناس، استهزئ بعافيتي المتهالكة وأضحك على نفسي كيف أُزاحم من تنزف روحه قبل قدمه، ومن كُسر سنده قبل ذراعه، ومن بُترت عافيته وذاكرته وعائلته قبل أن تُبتر يده في ليلة دامية أزهقتْ أرواح من كانوا يمنحوه كفّهم ليغدوا وحده الناجي، والكثير الكثير من إصابات الحرب العجيبة.

قاومت إرهاقي لـ  4 أيامٍ حتى أُعدمت قدرتي على الاحتمال، قررتُ الفحص وسرتُ أجرّ نفسي؛ علّي أطمئن، وهناك صُدمت بطوابير الانتظار، وانتشار الداء، وقلة حيلة الشباب قبل الفتيات رغم فارق القوة الطبيعية بالجسد، لقد بدا العذاب واضحًا على جوارحهم التي مالت بأكملها على ذويهم بغية الاستناد حين خارت قواهم واختفت قدرتهم على المشي. السيءُ في الأمر طول مدة المرض الذي يُبقيك ببقايا صحة لا تكفي لكفاف نفسك، أما العلة الأخرى فهي أنه لا علاج للمرض سوى الحلوى في وقتٍ غاب فيه السكر عن بلادنا بعدما غرقت بعلقم الفقد، واختفى التمر الذي كنّا نسلكه رغم غلائه كقوتٍ صباحي يصمد فيه صبرنا حتى مساء أيامنا المتشابهة ليكون على موعد مع الغذاء المؤخّر، أمّا عن العسل فقد نفد من بقايا مناحل البلاد ومُسح عن رفوف الصيدليات واختفى من السوق وكأن الأرض الغارقة بالدم انشقت وابتلعته عطشًا للحلاوة.

هذا على صعيد مرض عابر منزوع الخبث لا يترك أثرًا بعد الشفاء ولا يزور المرء إلا مرةً في العمر، فما بال الضعفاء من أبطال الأمراض المزمنة وغسيل الكلى والسرطان أمام توقّف كل المشافي في الشمال عن الخدمة، وغياب الدواء وحجب شقي المدينة عن بعضهما للحد الذي يكون فيه المرء مطالبٌ بالتنسيق لتجاوز مفترقات الموت للوصول جنوبًا إلى زاويةٍ طبية حالها أقل سوءًا من الشمال، أما عن المعابر فقصةٌ أخرى ترويها التحويلات العالقة المبطنة بالحاجة العاجلة على بوابةٍ مدمرة لا يفصلها عن العالم سوى تكالب العدو والقريب على قتل حرية كل من في غزة.