لطالما تمسّك الفلسطينيون على اختلاف أماكن تواجدهم بشعار "كلٌ يقاوم على طريقته"، فمن القلم إلى الرصاص، ومن الحجارة إلى الريشة، فربّ لوحة تحرّك العالم، ولربّ كلمة تعادل السيف في حدتها والبلسم في أثرها، فتُعزز الصمود وتبقي على حالة الثبات رغم الوهن.
كل ذلك وأكثر دفع الحاج فخري الصفدي (62 عامًا) للكتابة على جدران إحدى المدارس في شرق مدينة غزة، التي نزح إليها بعدما دمر الاحتلال منزله بحي الدرج، يقول فخري لـ"الترا فلسطين": "الكتابة على الجدران هي عبارة عن فضفضة لتفريغ ما بدواخلنا وتدوين خواطرنا بأيسر الوسائل".
يُحيي فخري الأمسيات الليلية بالأهازيج التراثية في محاولةٍ للترفيه عن النفس واختلاق البهجة وترسيخ مبدأ الانتماء لمجابهة لحظات الضعف
فضفضة المعاناة
يعتبر فخري الكتابة على الجدران هي أفضل السبل وأقلّها تكلفة لإيصال الرسالة، ونقل مأساة النازحين في ظلّ غياب الإنترنت، ومحاولة تغييب الاحتلال للإعلام، مضيفًا "يجب على الإنسان أن يمتنع عن الكبت بإخراج ما في داخله كي لا يقع فريسةً للأمراض النفسية والعضوية لا سيما المزمنة".
ووسط تشجيع كبير، يُلّحن فخري بعضًا مما يكتب، ويقدمها للنازحين بطريقة "الموّال"، كما يُحيي الأمسيات الليلية بالأهازيج التراثية في محاولةٍ للترفيه عن النفس واختلاق البهجة وترسيخ مبدأ الانتماء لمجابهة لحظات الضعف، وتعزيز الارتباط بالأرض تحت ظلال المأساة وغطاء الجرح الواحد.
وأكد فخري الذي كان يعمل مدرسًا لمساق التاريخ في المدارس الثانوية بغرب غزة قبل عامين من التقاعد، حرصه على تدوين تواريخ الثورات الفلسطينية المختلفة ضمن جدارياته؛ لنقل المعلومة وإحيائها بين الأجيال كافة، مشددًا على ضرورة الإلمام بأحداث البلاد وامتلاك خلفية تاريخية حول الوطن.
وأضاف: "عبر أنشطتي أحاول أن أُشرّب الأطفال حب الوطن، وأن أعلمهم معاني الانتماء رغم المعاناة كلها، كما أني لا أتوانى عن الإجابة عن استفسارات الكبار أيضًا حول التاريخ والأحداث"، منوهًا إلى أن ما يقوم به يأتي امتدادًا لمسيرته العملية عدا عن حبه للشعر والأدب وترجلّه منصات الاحتفالات الوطنية وإشرافه على الإذاعة المدرسية.
وحول إمكانية الهروب من أهوال العدوان عبر الكتابة، لفت فخري إلى انعدام ذلك باعتبار الأهوال جزءًا من الواقع الحالي للحياة، منوهًا إلى أنه يبتغي في كل نصٍ يكتبه توجيه الرسالة إلى الأعداء بأن "الفلسطينيين لا يعرفون المهابة، كما أنهم يدركون عظمة الشهادة، مبينًا أن الاحتلال أسوأ من المغول والتتار في مرورهم الذي لا يُبقي أثرًا لشيء".
تحت رحمة الإغاثة
يعيل فخري 27 فردًا من أفراد عائلته وسط ظروف مأساوية يعتمد فيها على المساعدات الغذائيّة بشكل أساسيّ لإطعام أسرته، كما يواجه صعوبة في توفير المسكن والملبس، فيما يعتمد على الشاحنات الإغاثيّة في توفير المياه النقية في ظل النقص الحاد في المياه الصالحة للاستخدام الآدمي في شمال القطاع، الذي تسببت في انتشار الأمراض الجلديّة والأوبئة.
أما على صعيد الطهي، فقد أكد فخري اضطراره إلى استخدام المواد البلاستيكية لإشعال النار ومواجهة أزمة شح الحطب رغم علمه بمضارها الصحية، لافتًا أنه يعاني انعكاسات سلبية على صحته لاعتماده على المعلبات كغذاء يومي.
وحول آثار المجاعة التي أبكت الأطفال في ذروتها، وقهرت الكبار أمام عجزهم عن توفير لقمة العيش، وما زالت تعصف بالشمال، يقول فخري: "صرت أعد عظم صدر الواحد بالعظمة؛ لأنه تحول لهيكل، وليس إنسانًا بالحقيقة والجوهر".
وكان أول نصٍ كتبه فخري ردًا على نصٍ دونته إحدى النازحات خلال اقتحام الاحتلال للمنطقة قبيل محاصرته للمدرسة بجملة "اهرب وأنت بتعيط"، الأمر الذي دفعه للرد عليها "ليس من طبع الفلسطيني الهروب، وليس من طبعه البكاء، اسألي التاريخ عنّا كيف كنّا نجدل الأعداء، ما من طبع الفلسطيني يا أختاه على هذه الأرض إلا البقاء".
وكتب فخري: "قم واقترب يا عدوي وابدأ في القتل، لا خوف بعد اليوم"، مشددًا على ضرورة وقوف الدول العربية إلى جانب الشعب الفلسطيني لتعزيز صموده.
وبينما عاتب فخري العالم العربي والإسلامي على تراجعه عن الوقوف إلى جانب الشعب الغزي في خضم الظلم العالمي، طالب الشعب الفلسطيني بأن لا يعول على الولايات المتحدة والدول الأوروبية التي تدعي حمايتها لحقوق الإنسان، مشيرًا إلى فشل الأمم المتحدة في تنفيذ العديد من القرارات ضد "إسرائيل".
أمنية واحدة
وعن أمنيات فخري، فقد كان زوال الهمّ وانتهاء العدوان هي أمنيته الوحيدة كبقية أبناء الشعب الفلسطيني، قائلًا: "نحن من هذا الكون الذي يحتضن الشعوب على اختلافها ونحن نحب العيش بعزة وكرامة، لا بذلة ومهانة".
وتشارك ناريمان جندية، (25 عامًا، وأم لنجمتين وقمر)، فخري أدب النازحين في مدرسة مسقط شرق مدينة غزة، بعد نزوحها من حي الرمال رفقة 30 نازحًا احتضنتهم في منزلها بحي اليرموك الذي نسفه الاحتلال بشكل شبه كامل، لتنزح بعدها 5 مرات بين شرق وغرب مدينة غزة بفعل الاقتحامات المتكررة.
وأوضحت ناريمان أنها خصصت وقتًا يوميًا للاجتماع مع الكتب الثقافية والتاريخية في محاولة للهروب من روتين الحرب وأجوائه، لتجد نفسها تكتب على الجدران، و"تبث الثقة والصبر في قلوب النازحين، وهي تشعر بنشوة الانتصار للوطن حين دفعت بهم بصورة خفية بأن تتبع كلماتهم قلمها، رغم ترددها في البدايات حرصًا منها على الملك العام".
وحول الكتابة تقول ناريمان لـ"الترا فلسطين": "شعرتُ بأن قيد الحرب كُسر بالقلم لا سيما، أن الكلمات الوطنية تشدني بشكل خاص، في ظل تجلّي مأساة الواقع والمعاناة اليومية"، لافتةً أنها كانت متجردة من الأهداف لحظة الاندفاع إلى الكتابة إلا من الطاقة الإيجابية، فيما أوضحت أن نصوصها كانت وليدة القراءة المستمرة ومنبعثة من المعاناة.
بوح القلم
لم تمتلك ناريمان من الأدب ما يُلفت فحسب، بل تميزت بحسن الخط أيضًا، الأمر الذي دفع الحاج فخري للاستعانة بها لتوثيق نصوصه، بينما تحوّل فخري إلى ملهمٍ للنازحين كلهم من حوله عبر تحفيزهم للاستمرار في البوح، إلى أن صار لكلٍ منهم مقولته الخاصة التي حفظت حضوره في الغياب.
وعن علاقتها بالكتابة، تقول ناريمان: "الكتابة هي كل السبلّ ونهاية المطاف حتى في أشدّ الأوقات"، لافتةً إلى أنها استعارت قلمًا من ابنة أختها كي تدوّن ما يجول بخاطرها بعدما خرجت من المنزل بلا شيء.
ونوّهت ناريمان إلى ضخامة الفارق بين حياتها قبل العدوان الذي حرمها "نعيم المسكن ونعمة العائلة" والكثير من التفاصيل، بعدما دمّرت قوات الاحتلال منزلها تاركةً إياها للثقوب والندوب إثر فقدانها لما يزيد عن 100 شهيد.
كتبت ناريمان: "لا وقت للحزن، ابتسمي الآن لا تقطعي للمحبين عادة.. قد عبرنا كل المدارات، وساح كل المنافي تسقط في ظل عينيكِ؛ فابتسمي يصبح الموت أشهى، ويتخذ الحزن طعم السعادة!"
"النزوح مجرد كلمة تختصر الوضع الذي نعيش في مراكز الإيواء، لكنها لا تُلخص تفاصيل الألم الذي واجهناه"، بهذه الكلمات تُلخص ناريمان صعوبات النزوح التي تحدتها مع أطفالها،وتضاعفت في وقت لم تستطع فيه توفير ما يسدّ رمقهم، حتى اقتصر الطعام على وجبة واحدة من الصلصة والماء، عدا عن شربهم المياه غير النظيفة.
وأضافت "ما واجهناه لم يكن بالقليل ليُسرد في مقال، كما لن تُوفي كتب التاريخ ما حلّ بناء وما سنذكر"، موضحةً أن المجاعة، فاقمت مأساة العدوان فوق جراح الفقد والعدد الهائل من الشهداء والجرحى والأسرى بالإضافة لمعاناة النزوح.
كتبت ناريمان: "حقًا ستنتهي الحرب؟! نبحث في ركام الدور والأنقاض، أغزةُ تلك أم أنها أضغاث أحلام تتخيل لي، فكيف امتدّ بي أجلي؟! سؤالٌ صعب.. لقد تعبت الغزاة وما تعبت!".
وعن آخر النصوص التي وثقت مرور ناريمان، وعكست حالة روحها، كتبت قبيل خروجها من مركز الإيواء: "لا وقت للحزن، ابتسمي الآن لا تقطعي للمحبين عادة.. قد عبرنا كل المدارات، وساح كل المنافي تسقط في ظل عينيكِ؛ فابتسمي يصبح الموت أشهى، ويتخذ الحزن طعم السعادة!".
وفي رسالة ختامية، قالت ناريمان: "لا تتركوا أقلام الوطن كما لم تتركوا سلاح التحرير"، متمنيةً حياةً طبيعية تنعم بالراحة والهدوء بلا حروب ولا دمار ولا فقد ولا وجع.
رسائل الفن
لم تكن النصوص وحدها التي عكست معاناة النازحين حين سلك أكرم أبو حصيرة (19 عامًا) طريق الرسم للتعبير عمّا بداخله بعد النزوح 10 مرات من حي التفاح إلى مناطق متفرقة في غزة، وفي ذلك، يقول أكرم: "لا مناطق آمنة بغزة، ولعلّ النزوح من منطقة لأخرى أثبت لنا زيف ادّعاء الاحتلال بوجودها".
وأوضح أكرم أن رسوماته هي عبارة عن مشاعر يخرجها على هيئة لوحات، مؤكدًا أنه يحاول نقل صورة الواقع والألم الذي يعيشه لمن لا يعلم حقيقته عبر الفن في الوقت الذي تخونه القدرة على التعبير.
وحول موهبته يقول أكرم: "فن الرسم موهبة منذ الصغر وميراث عائلي أمسك بريشته والدي نعيم الذي رحل في حرب 2008، وتركها لمن بعده من أولاده لنقل الصورة والصوت بالخطوط والألوان".
لقد كانت غزة تتسع لحلم أكرم، طالب البرمجة في الكلية الجامعية، لكنها لم تعد كذلك بعدما اغتالت قوات الاحتلال سبل الحياة، وفي ذلك نوّه أكرم إلى أنه كان "يخطط كغيره من الشبان في عمره لمستقبلٍ باهر، وينوي السفر والدراسة وإنشاء شركة خاصة للأمن السيبراني بعد إنجازه لتخصصه".
ماذا عن الأحلام؟
أضاف أكرم: "الحروب التي تمرّ بنا بين كل عامٍ وآخر تهدم أحلامنا، ولكننا نعود إلى بنائها، إلا أن هذه الحرب لم تترك أي وسيلة، وأعدمت كل سبل العودة".
وحول التشجيع الذي يحيطه، يقول أكرم: "الكلّ يشجعني ويدفع بي نحو صناعة محتوى خاص بأدب النازحين من خلال تصوير ما أنتج ومشاركته عبر منصات التواصل الاجتماعي لينتقل إلى العالم".
أما عن رمزية رسوماته، فقد بينّ أكرم أنها موجز للعدوان ومجرياته ومأساته، "فما بين قلبٍ مطعونٌ بسيف الاحتلال يُلخص سوء المشاعر التي يعيشها الفلسطينيون وهم يغرقون بالدم والألم، ودبابة تسطّر بأس المقاومة وأفعالها في رسالة تحفز الغزيين للبقاء خلف المقاومة التي تتصدى للاحتلال، وترد الألم بالوجع".
ونوّه أكرم إلى أن "المعاناة" هي أبرز ما تركز عليه لوحاته، مضيفًا: "باتت حياتنا رحلات من المعاناة، فنحن نعاني انعدام توفر الطعام الذي نعتمد فيه على المساعدات الإغاثيّة، كما أننا كثيرًا ما نضطر لشرب المياه الملوثة، عدا عن أزمة الحطب وصعوبة جمعه، لا سيما في ظل تناقصه يومًا بعد يوم، وعجز البعض عن شرائه".
كما أوضح أكرم أن النزوح المستمر يضاعف من معاناة العدوان، لا سيما وأن النازحين يضطرون للهروب بأهم الوثائق والأوراق والقليل جدًا من المونة الغذائية، ويتركون ما دون ذلك، الأمر الذي يجعلهم يواجهون النقص في اللباس والمفروشات والأدوات وغيرها مع كل رحلة نزوحٍ جديدة.
وفي رسالته للعالم، يقول أكرم: "العالم الخارجي غير متصل بنا، ومهما تحدثنا فما من مستمع"، متمنيًا أن تتوقف حرب الإبادة المستمرة على غزة.